تحقيق - خالد سعد : زواهر صديق : عوضية سليمان إنها ليس بغلة عثرت بأرض الشام ولا «أم شوايل» رماها والدها في جب عميق، لكنهم أسر يصل عددها الى نحو (123)، وتعيش - لا بل تتعثر - في حفرة عمقها سبعة عشر متراً على مرمى حجر من طريق الأسفلت في منطقة السامراب المأهولة بالسكان والمخططة حضرياً، كما تقول خرافات النمو ببلادنا. يا الله.. هذه هي «الأسكندرية» .. هكذا سخر أحد شباب حي «الحفرة» وهو يدلنا نحن التائهين - فريق «الأهرام اليوم» - إلى بيوت «الصفيح» و«رواكيب الخيش» المنتشرة على ميدان من التعرجات وأكوام الأوساخ... هذه هي «الحفرة»؛ ملامحها التردي البيئي والصحي، تفتقر لكل ما يمكن أن نسميه الحياة الكريمة في دنياوات العاصمة.. هؤلاء الناس رمت بهم ظروفهم الاقتصادية السيئة ليستجيروا من رمضاء «الإيجار» بنيران «الحفرة»، ضاقت بهم الأرض بما رحبت واحتضنتهم الحفرة دون رفق، وبأتعابها غير المالية، تهدهم الطبيعة بزوابعها وسيولها وأمطارها، حتى الشمس تأتيهم متأخرة.. «يلتحفون الريح ضد الريح». { ما القصة يا سادة: كانت الشمس عمودية تماماً في كبد السماء وأشعتها تلسع الوجوه ومحطة «اللستك» تزيدها سخونة، في تلك الأجواء توقفت عربة فريق (الأهرام اليوم) تسأل أحد سائقي الركشات - وهم أناس يعرفون الأبرة في كومة قش - عن مقصدنا.. بادرنا أحدهم بالإجابة: (تعنوا الحفرة الفيها الناس ولا الفاضية) أجبناه: (الناس التحت خابرين عمايل اليانكي) كما قال القدال. بعد ما أشار إليها توجهنا صوبها مباشرة.. بعد خطوات وجدنا أنفسنا على شفا الحفرة، هنا تبعثرت كل الصور التي توقعناها، أمام واقع فاق كل خيال، وقفنا نتأملها من علٍ، قبل أن نتدحرج بداخلها، بدأ المكان حتى الشمس تأتيه متأخرة بعد أن تنقشع ظلال المباني العالية حوله.. لم تكن تلك المباني غير بيوت عادية على سطح الأرض، لكن بانت كأنها عمارات شاهقة بجانب الهوة العميقة التي يبلغ عمقها (17) متراً تحت سطح الأرض. في ذاك المكان الحياة والموت وجهان لشكل واحد، حيث الحياة فيه أعمق وأبعد من حياة القبر، حيث عمق الأخير لا يتجاوز المترين. في هذا الحى لا يوجد شيء سوى الفقر ومخاوف الخريف وأهواله التي تتوعد سكانه، والكلاب الضالة وأوكار لحماية السكارى الحيارى، كما عرفنا فيما بعد. الأطفال يتجولون بين الأوساخ التي رمى بها الناس الذين يقطنون حول الحفرة، الأطفال يتقافزون في براءة يبحثون عن آمالهم وأحلامهم الضائعة، تتعثر أياديهم الصغيرة بالحشرات والفئران، مثلما جاء على لسان أحد أبطال رواية نوار اللوز: (أحلم يا المسكين، احلم حتى ينور ملح البحر). ظللنا نبحث عن امرأة تدعى «زينب عريش» هي ممثلة المرأة بالمنطقة، طرقنا باب منزلها الحديدي، وهو الباب الوحيد للحوش في المنطقة، إلا إننا لم نجد استجابة، ظلنا نشق طريقنا وسط (الفريق) الذي يقبع في قاع حي النهضة، نبحث عن أسرة أو أي شخص آخر نستوثق منه عن طبيعة الحياة بالحفرة.. بدت لنا الغرف كالمغارات مبنية من الجالوص وجولات الخيش المهترئ كأنها تعود للتاريخ القديم.. وبمنطقة في نهاية الأرض.. الحفرة نفسها (ست الاسم) تتخللها حفر تحتجز الأوراق والنفايات.. مجاري المياه من الحيشان المجاورة في مستوى سطح الأرض ترسل مواسيرها لتدفق مياه الصرف فوق رؤوسهم، إضافة لتلال من النفايات المنزلية، مجسدة عمق التدهور البيئي والصحي والإنساني، من بين الجدران والزوايا التي تفوح منها رائحة الفقر خرجت إلينا «أم الحسن حمدون»، رحبت بنا بابتسامة مشرقة - نعم مشرقة رغم البؤس- أكرمتنا هذه السيدة بماء بارد.. واستقبلتنا فى راكوبة لجارتها تتوسط أكواخ بمساحات متقاربة جدا تكاد تكون متراصة.. كل كوخ وغرفة ملك لأسرة، قبل مرور لحظات على بقائنا كانت (الأسرّة) الاثنين والعنقريب قد ضاقت بساكنات المنطقة. { كيف بدأت الحياة قالت أم الحسن حمدون ل (الأهرام اليوم): سكنت فى هذه الحفرة منذ إحدى عشرة سنة، وجدت فيه فقط شجر العشر وقمنا بقطعه وعشت بداخله لأنني اكتويت من نيران الإيجار وفضلت البقاء هنا حتى أوفر النفقات. وروت أن لديها ابنة وحيدة في الثالث عشرة من عمرها توفى والدها وتركت الدراسة منذ الصف السابع لأنها تريد مدرسة خاصة، كما أفادتنا الابنة ريماز - لولا الأخلاق المهنية لوصفناها للقراء - وقالت أم الحسن: (أنا خليت الدراسة من الصف الأول بسبب قصة: في معلمة اتحنّنت في المكتب قالت لي والبنات المعاي نشيلها للمكتب التاني، ولكني اتفقت مع زميلاتي نرميها، وحصل ما حصل.. طلبوا ولي أمري مشيت تاني وماجيت). { مجتمع الحفرة واصلت أم الحسن: إن سكان المنطقة من مختلف الأنحاء، من دارفور ونيالا وكوستي وتندلتي وغيرها.. جمعت بينا العشرة والشقاء، نتكاتف جميعنا على شدة الحياة ونقوم بتجميع مبلغ (2.5) جنيه كل يوم كصندوق خيري نعطيها للشخص الذي تواجهه ظروف، فى الأيام العادية نعمل القهوة وأحياناً نصنع الطعام مع بعضنا البعض، وإذا أطفالنا تشاكسوا مع بعضهم نمنعهم ونقول لهم: (نحن أهل ماتجيبوا لينا مشاكل بيناتنا)، ولو حدثت مشكلة بين الأزواج يقوم أهل الحفرة بحلها، وأيضا لو مرض شخص نتكاتف جميع لعلاجه والذهاب معه للمستشفى. وأكدت أم الحسن أن أيام الخريف تعد من الأيام العصيبة فى منطقتهم، حيث تعصف بهم زوابع الخريف والوحل وتسبح المنطقة على آخرها في الطين، فيذوب طوب منازلهم قبل أن تتحول لركام.. يحملون أطفالهم على أكتفاهم خشية الغرق ويغادرون الحفرة إلى حين، والمحظوظ منهم يمتلك مشمعاً من البلاستيك يتوارى به هو وصغاره. (الأهرام اليوم) لاحظت ضيق الغرف، إذ أن الواحدة منها تجمع سبعة أشخاص، فيهم صبايا وشباب وأطفال وأم وأب.. كل أشكال الحياة تجري فى غرفة مساحتها لا تتعدى (مترين فى مترين)، ضاربة بكل أشكل السلامة الصحية والاجتماعية عرض الحائط. { نبني والمطرة تهد !! أما المواطنة عائشة، فهي تسكن فى الحفرة منذ إحدى عشرة سنة، وخلال هذه الفترة صنعت منزلها إحدى عشر مرة!! وتقول: (في كل موسم للأمطار أنا (أدق) الطوب وأبني من جديد.. يساعدني أبنائي اللذين لا تتجاوز أعمارهم الرابعة عشرة.. في الماضي كانوا صغار أواريهم من المطر، والآن كبروا قليلاً وأرهقهم بالبناء).. وأضافت عائشة أنهم يعانون من تنامي اليرقات وتوالد الحشرات والحيات فى فصل الخريف، وتظل البرك مليئة بالماء لشهور طويلة، تنفحهم بالحمى والإسهالات وإصابة الأطفال بالتهابات الصدر والنزلات. { فيمَ يعملون؟ فى (الحفرة) الكل يعمل لمجابهة نفقاته اليومية، حيت يتفاوت عمل النساء بين غسيل الملابس فى البيوت وبيع القش والعمل (دلالايات) يبعن بعض البضائع الرخيصة فى سوق السامراب، أما الفتيات فى عمر ال (15) فما فوق فيذهبن لمصنع.. يقمن بتنظيف الكركدي ويتقاضين جنيهاً مقابل كل جوال يقمن بتنظيفه، ويتراوح دخل الواحدة ما بين (5-10)، أما الرجال فجميعهم يعملون (باليومية)، وفي أحيان يعود البعض خالي الوفاض وربما يتقاسمون اللقمة مع جيرانهم. { من داخل محلية بحري المدير التنفيدي لمحلية بحري الأستاذ عماد الدين خضر قال ل (الأهرام اليوم ) إن (الحفرة) تسبب فيه المواطنون بنقل التراب لبناء منازلهم، وإذا خرج الناس من الحفرة يسهل ردمها لسكان الحي.. وما يؤخرنا كيفية ردمها وبداخلها الناس، وأكد أن المحلية سوف تقوم بردمها حتى لو كلف ذلك 2000 (دور) من التراب، ووعدت المحلية برش المنطقة ونظافتها. أما عن توزيع الاراضى فقال: هذه ليس من سلطة المحلية بل من اختصاص الأراضي، وفى ختام حديثه ل»الأهرام اليوم» دعا المدير التنفيذى لمحلية بحرى سكان منطقة (حفرة بخيت) لابتعاث ممثل لهم لمقابلته للترتيب لوضع حلول لمشكلتهم. ِوحول إن كانت للمحلية أي خطط لإزالة هذه المنطقة يقول المدير التنفيذي للمحلية إن إزالة المنطقة من اختصاص إدارة التعديات بالتخطيط العمراني، فهي تقوم بنزع الاراضي الحكومية التي يتم التعدي عليها في حالة المباني الجديدة إلا منطقة الحفرة هى قديمة ولم نبلغ بإتجاه لإزالتها، وأضاف أن المنطقة بها مجار قديمة والآن يجرى تحديثها تأهبا للخريف القادم، وأكد أن المنطقة تجفف في غضون يومين فقط، وأوضح أن الوضع الصحي يجري بصورة جيدة أفضل من السابق بكثير، وقال: في السابق قمنا بعمل ردميات بواسطة الآليات ومن ناحية النطافة يطبق فيها برنامج النظافة المتبع فى المحلية بنقل الاوساخ.