نصب جيش الحركة الشعبية كميناً للقوات المسلحة والقوات الأممية بأبيي.. راح ضحيته بعض أفراد الجيش السوداني، فدخلت القوات المسلحة أبيي، واعتُبرت الحادثة وتبعاتها نذيراً بعودة الحرب بين الشمال والجنوب.. وهي بحكم الوقائع الماثلة حرب مستحيلة (في الوقت الراهن على الأقل).. ولو وقعت تكون حرباً مجنونة ومن يشعلونها مصابون بالجنون المطبق.. (لو وقعت الحرب).. سينتهي بمحمد أحمد ودينق.. مجنونين يذرعان الشوارع في الخرطوم وفي جوبا (ذهاباً وإياباً، إلى مالا نهاية).. وشوارع دول الجوار.. (مثل المرأة ذات اللطف في المسلسل السوداني أقمار الضواحي.. الحنية وين).. ستعود النيران إلى النيل الأزرق وجبال النوبة والشرق.. وسيشتد أوارها في دارفور.. والنيران (قايدة) في الجنوب.. (مشهد كابوسي ومرعب، كأنه هوة الجحيم). قد تكون هنالك عناصر في الحركة الشعبية، منهم أبناء أبيي، ترغب في أن تصل بالتوتر إلى نهاياته.. أي تدخُّل القوات الأممية.. خصوصاً بعد هزيمة الحركة في انتخابات جنوب كردفان، فالفوز بها كان يمثل لهذه العناصر بارقة أمل في ظهور الجنوب الجديد.. في جبال النوبة والنيل الأزرق ودارفور، بقصد إسقاط حكومة الخرطوم.. ولكن الملاحظ أن وفد مجلس الأمن الذي يزور السودان حالياً، جاء من أجل متابعة إجراءات اتفاقية السلام الشامل، ليجد في انتظاره تصاعد الأحداث في أبيي.. وحتى عندما أمر مجلس الأمن بانسحاب القوات المسلحة من أبيي، قرن قراره بضرورة استدامة اتفاقية السلام، وأمريكا أيضاً لا ترغب في عودة الحرب مجدداً، حتى تطمئن على مستقبل الجنوب، وإنمائه المرتبط حتى الآن بالشمال في خطوط نقل البترول وتكريره وتصديره، وفي مرور السلع إلى الجنوب.. وهي ورقة ضغط تستخدمها الحكومة في مفاوضات أديس أبابا بين الشريكين. تحركات الحركة الشعبية في أبيي، هي من قبل الأخذ بسياسة فرض الأمر الواقع، ربما أملاً منها في تدخُّل المجتمع الدولي في أبيي لصالحها، والذي تعهد في اجتماع نيويورك العام الماضي، بدعم الجنوب وإنمائه.. ولكن تبقى حاجة الجنوب للشمال (المرحلية) عقبة في طريق انحياز الغرب للجنوب لحد التدخل العسكري الأممي. سياسة فرض الأمر الواقع في أبيي كان من عناصرها رئيس إداريتها، دينق أروب كوال.. وصدر مرسوم جمهوري بحل الإدارية وإقالة رئيسها ونائبه ورؤساء الإدارات الخمس (وعزا مسؤول ملف أبيي بالمؤتمر الوطني الدرديري محمد أحمد، حل مجلس إدارية أبيي وإعفاء رئيسها إلى ما أسماه بالتجاوزات التي ظل يحدثها عبر استخدام شرطة المنطقة في الأعمال العدائية.. السوداني 22/5). إذن فالحركة الشعبية تريد فرض الأمر الواقع في أبيي ومن هنا جاءت تحركاتها الأخيرة في المنطقة، ربما أملاً في التدخل الأممي كما قلت. وفي المقابل دخلت القوات المسلحة أبيي وأعلنت أنها لن تخرج منها إلا بعد التوصل لاتفاق ملزم.. والفعلان، فعل الحكومة وفعل الحركة الشعبية، نستقرئ منهما تأكيد توازن القوة في التفاوض حول أبيي.. ولكن يعلم الطرفان أن حل مشكلة أبيي ضروري لأنه يرتبط بقضايا اقتصادية أخرى فيها حياة أو موت الشمال والجنوب، وهي الفيصل في العلاقة بينهما، بدرجة أكبر من أبيي على الرغم من أهمية أبيي، كما سنرى.. فاستحالة العودة للحرب أقرَّ بها مصطفى عثمان إسماعيل، مستشار رئيس الجمهورية، الذي استبعد وقوع حرب بين الشمال والجنوب بسبب المنطقة المتنازع عليها، أبيي (أخبار اليوم 22/5). ذات الواقع كان قد أكده القيادي بالحركة الشعبية والعضو في وفدها المفاوض في أديس أبابا، لوكا بيونق، والذي برغم تقديمه لاستقالته من منصبه كوزير مجلس الوزراء، إلا أنه قطع بأن أبيي لم تكون حجر عثرة في تحقيق البناء المستقبلي للدولتين. (الصحافة 22/5) والحيثيات التي توصل إليها وفدا الحكومة والحركة الشعبية في أديس أبابا، نستقرئ منها استحالة العودة للحرب عند الحركة الشعبية.. وفي المقابل، نستنتج منها استحالة العودة للحرب عند الحكومة أيضاً.. ونستنتج منها ضغوط الحكومة من أجل الحصول على نصيب وافٍ من بترول الجنوب، لتفادي الوضع الاقتصادي المنذر بالانهيار لو انفصل الجنوب.. والمنذر بالثورة عليها، وغريب أن يساعد الجنوب حكومة الإنقاذ.. ومنع الثورة عليها.. وهي الحكومة التي يرغب في انهيارها.. (ولكنها فروض الواقع.. لا فروض الحرب المجنونة).. والتي لن تقع بسبب أبيي.. لو خضع الطرفان للعقل والمنطق.. فالأخبار الواردة من أديس أبابا تقول (بأن المفاوضات الجارية هناك بين الشريكين، الحكومة والحركة الشعبية، قد حسمت قضية ملكية حقول البترول وأنابيب نقله حيث اتفق الشريكان على أن تكون الأولى ملكاً حُراً للدولة الجديدةبالجنوب، والثانية (أي الأنابيب) ملكاً للشمال، وتوصل الشريكان أيضاً لاتفاق بعقد اجتماع حاسم السبت المقبل بجوبا، بين الحكومتين في الشمال والجنوب وشركات البترول لبحث قضية الدخول في علاقة تجارية لتسويق البترول وتحديد الرسوم إلى جانب بحث العقودات والتفويض.. الصحافة 22/5). هذه هي القضية الأساسية: البترول الذي يحدد تدفقه مصير الشمال والجنوب ويحدد بقاء أو ذهاب حكومة الإنقاذ والحركة الشعبية، من الحكم، ونستقرئ محدداتها من حديث سابق لبيونق، بوصفه مشاركاً في مفاوضات أديس أبابا. (الصحافة 22/5) قُلت بأن حكومة الإنقاذ تضع في اعتبارها أن (الهزة الاقتصادية) المفاجئة بعد انفصال الجنوب تنذر بالثورة عليها.. من هنا تجيء ضغوطها على الحركة الشعبية بورقة تكرير وتصدير البترول عبر أنابيب نقله الواقعة في الشمال.. وأيضاً الضغط بورقة سريان السلع إلى الجنوب.. وهما ورقتا ضغط قويتان تهددان بخنق الجنوب.. وقد نجحت ضغوط حكومة الإنقاذ إلى حد.. يقول بيونق إن تقسيم البترول سيتواصل بعد يوليو (وهذا يعني عند حكومة الإنقاذ تفادي الهزة الاقتصادية المفاجئة بعد انفصال الجنوب).. ولكن إلى متى يستمر تقسيم النفط بين الدولتين.. الجنوبيون يريدون تقديم حصة من نفطهم كمساعدة للشمال والحكومة ترى فيها حقاً لها.. يقول بيونق (إن الانفصال سيخلق صدمة لاقتصاد الشمال مما يستدعي بذل الجهود لإيجاد آلية مرحلية لدعم اقتصاد الشمال ليتواكب مع الانفصال وإن تلك القضية دار حولها نقاش وتباينت حولها الرؤى، إذ يرى المؤتمر الوطني ضرورة إيجاد إجراءات مرحلية لدعم الاقتصاد الشمالي، كجزء من استدامة الدولتين اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، وينظر لدعمه من بترول الجنوب كحق ويرفض تماماً نظرة الحركة إليه كمساعدات). هذه هي القضية.. يعلم بيونق من مقعده على طاول المفاوضات أن أبيي لن تشعل فتيل الحرب بين الشمال والجنوب، وقد سبق أن قالها، وأن التوصل لحل لها تفرضه مفاوضات أديس أبابا، وأن البترول هو الأهم، وأن المشكلة في أن حكومة الإنقاذ ترى في تقاسمها للنفط مع الجنوب، بعد الانفصال، حق لها (وهو للحقيقة منطق مغلوط، يتيح فرصة طرحه من جانب حكومة الإنقاذ، مع تناقضه مع المنطق، ورقة تكرير وتصدير نفط الجنوب عبر الشمال).. وفي المقابل، فإن الحركة الشعبية ترى في ما تقدمه للحكومة من نفط الجنوب مجرد مساعدة لا التزام.. تقدم الحركة مساعداتها للشمال وهي ترنو بعينها بعيداً ليوم تستطيع فيه بناء خط أنابيب إلى ميناء ممبسا الكيني، وهو ما صرح به باقان أموم على أنه توصية من سلفاكير.. ومن ثم فالحركة ترى في نفسها محسناً يقدم مساعدة.. لا شريكاً ينفذ التزاماً. قضية نصيب الشمال من بترول الجنوب هي المحك الذي قد تتصاعد عنده الأمور حتى في أبيي، فأبيي مع أهميتها، عنصر تابع للعنصر الأساس، أي المشاركة في بترول الجنوب، والتنازلات في شأن أبيي ممكنة خاصة من حكومة الإنقاذ. قُلت بأن البعض في الحركة الشعبية ربما يأمل في تدخل أممي في أبيي بعد هزيمة الحركة في انتخابات جنوب كردفان، أي تهديد حلمهم بالجنوب الجديد في النيل الأزرق وجنوب كردفان ودارفور.. لكن وفقاً للشروط الاقتصادية سالفة الذكر الخاصة بالبترول والمحددة لمستقبل الجنوب وإنمائه، فإن أمريكا ذاتها لا ترغب في هذا التدخل إلا لو بلغت الأمور ذروتها وهددت (بخنق الجنوب).. ويبدو أن الخطوة التي قامت بها الحركة الشعبية في أبيي لم تحوز رضا البيت الأبيض.. وكان موقف الإدارة الأمريكية على لسان المتحدث باسم الخارجية الأمريكية، مارك تونر، هو (إن الولاياتالمتحدة تأسف للمعلومات عن الهجوم الذي شنته القوات الجنوبية على موكب تابع للأمم المتحدة وتطالب حكومة جنوب السودان بتقديم شروحات والتأكد من أن قواتها تلتزم ضبط النفس.. أخبار اليوم 22/5). ولكن أيضاً تلوح بصك براءة لصالح حليفتها الحركة الشعبية.. ف (دعوة ضبط النفس).. تعني التشكيك في حقيقة ملابسات واقعة أبيي وجوهر الأمر هو أن أمريكا لا ترغب (في الوقت الراهن).. في تصاعد الأحداث، وهو ذات موقف وفد مجلس الأمن، المتواجد حالياً بالسودان، إذ حرص الوفد على الاستماع لوجهة نظر المسيرية في أبيي، وأدان الوفد سلوك الحركة الشعبية والحكومة معاً ورأي في ما يجري انتهاكاً لاتفاقية السلام الشامل ونُذر عودة الحرب.. من جانبها قالت الحكومة إنها لن تنسحب إلا بعد التوصل لاتفاق مُلزم وإن الحركة الشعبية تريد فرض الأمر الواقع في أبيي.. (قناة الجزيرة). وحضور وفد مجلس الأمن للسودان هو بهدف التأكد من تنفيذ اتفاقية نيفاشا وإعلان دولة الجنوب في يوليو القادم.. لكل ذلك فهو يريد تهدئة الأمور لا تصعيدها.