جزء كبير من مشكلات الرؤساء تتسبّب فيه الدائرة الضيقة المحيطة بهم المؤلفة من بعض المستشارين والوزراء والمقربين من الأهل والأصهار، فهؤلاء يركزون على عزل الحاكم عن حقيقة ما يجري في الشارع ويحرصون على أن يكون الوصول إليه في غاية الصعوبة وربما مستحيلاً ويؤكدون له باستمرار أن عهده هو الأفضل وأن الشعب يلهج بشكره ولا يكف عن الدعاء له بطول العمر واستمراره رئيساً مدى الحياة. وهم بذلك يخونون رئيسهم ويخدمون مصالحهم بالدرجة الأولى فالوضع الممتاز الذي هم عليه مرتبط ببقاء الرئيس في الحكم وإذا ما تم تغييره فإنهم حتماً سوف يذهبون معه ويفقدون الامتيازات (إيّاها) .. وكل الأبهة والسطوة والأهمية أيام كانوا قريبين مقربين من الرئيس وأيام كان الرئيس رئيساً يحكم. وعندما نسب إلى الرئيس الفريق إبراهيم عبود في أكتوبر 64 بعد أن رأي إحدى التظاهرات الحاشدة الهاتفة ضده عندما نُسب إليه قوله (هل كل هؤلاء الناس لايريدونني) فقد كان معنى ذلك أن الفريق عبود كان في ذلك الوقت معزولاً عن نبض الشعب ومن الغريب أن يحدث ذلك فقد كان من كبار معاونيه بعض كبار الوطنيين المخلصين وفي المقدمة منهم الأستاذ أحمد خير المحامي صاحب فكرة مؤتمر الخريجين الذي تأسس عام 1938م وقاد الوطن إلى الاستقلال. ولكن الرئيس عبود كان في نفس الوقت كثير الإحترام لشعبه ولإرادته ولذلك فإنه بمجرد أن علم برغبة الشعب في التغيير استجاب لها وقام بحل المجلس الأعلى للقوات المسلحة .. ومجلس الوزراء والمجلس المركزي الذي كان بمثابة برلمان محدود الصلاحيات. ولذلك يستغرب المرء وهو يرى بعض رؤساء هذا الزمن يتشبثون بالسلطة رغم أن الشوارع والميادين مكتظة بالألوف وأحياناً بالملايين المطالبة بالتغيير .. بل أنهم أحياناً يكابرون فالذين نزلوا إلى الشوارع قلة عميلة .. وأحياناً شماسة وكان هذا هو وصف الإعلام المايوي للمتظاهرين المطالبين بالتغيير في مارس وأبريل 85 هنا في السودان وأحياناً انتفاضة حرامية وكان هذا هو الوصف الذي أطلقه الرئيس الراحل محمد أنور السادات على التظاهرات الصاخبة التي اجتاحت مصر من بورسعيد شرقاً إلى مرسى مطروح غرباً ومن الإسكندرية شمالاً إلى أسوان جنوباً (كانت سيناء في ذلك الوقت من يناير 1977م تاريخ انتفاضة الحرامية مازالت خاضعة للإحتلال الإسرائيلي). وأيضاً كان واضحاً أن الرئيس السادات في ذلك الوقت لم يكن على معرفة كافية بحقيقة ما يدور في الشارع المصري وما يعانيه المواطنون وكانت الطامة الكبرى أن الرئيس أساء إلى المتظاهرين الذين هم شعبه وسمى انتفاضتهم انتفاضة الحرامية. وبعد أكثر من أربعة عقود أتى الربيع العربي وانفجرت الشعوب أو بعضها بالتظاهرات الداعية إلى تغيير نُظم الحكم ولم يتغير الحكام فما زالوا بعيدين عن نبض الشارع مكابرين يسيئون إلى شعوبهم وكان منهم الرئيس الليبي معمر القذافي. وفي أحدث خطبة قال الرئيس السوري وبلاده تغلي بالاحتجاجات منذ مارس الماضي (إن المؤامرات مثل الجراثيم تتكاثر في أية لحظة) ورد عليه الشعب قائلاً: (الجراثيم تريد إسقاط النظام).