في يوم الثلاثاء الماضي الموافق 28 يونيو 2011م اتفق الشريكان «الجديدان» المؤتمر الوطني والحركة الشعبية قطاع الشمال بأديس أبابا في اجتماع برئاسة ثامبو أمبيكي رئيس لجنة حكماء إفريقيا وبحضور رئيس الوزراء الأثيوبي مليس زناوي بعد مشاورات سرية مطولة امتدت لأكثر من أسبوعين. اتفق الشريكان على اتفاق إطاري مكوّن من ثلاثة عشر بنداً. البندان الأساسيان في هذا الاتفاق الإطاري هما الشراكة السياسية والترتيبات الأمنية، خاصة وقف العدائيات بجنوب كردفان خلال شهر من توقيع الاتفاق الإطاري وتم تشكيل لجنة سياسية ولجنة أمنية للتنفيذ. الوفد المفاوض للمؤتمر الوطني ترأسه دكتور نافع علي نافع وكان في عضويته إدريس محمد عبدالقادر ودكتور مطرف صديق. أما وفد الحركة الشعبية قطاع الشمال فقد كان برئاسة الفريق مالك عقار وعضوية ياسر عرمان وعبدالله تية. يعتبر هذا الاتفاق الإطاري خطوة على طريق مفاوضات شاقة كما حدث في اتفاقية نيفاشا «الكارثة»، والشيطان يكمن في التفاصيل كما أشار لذلك من قبل قرنق، وكما يردد الآن تلميذه النجيب عرمان نفس الشعار بعد توقيع هذا البرتوكول الإطاري. لقد سبق لعرمان أن صرح بأن وراء كل جنوب قديم جنوباً جديداً في جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، كما نادى عرمان بأهمية ممارسة الحركة الشعبية قطاع الشمال لنشاطها بعد نهاية الفترة الانتقالية وإذا لم يتم السماح لها بذلك فإن لها طرقاً أخرى ستلجأ إليها. كذلك أشار الفريق مالك عقار إلى أن الحرب ستندلع مباشرة في جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق بعد إعلان استقلال جنوب السودان. لا شك أن محاولة الحركة الشعبية الاستيلاء على مدينة كادوقلي وقبلها كمين أبيي كل ذلك يأتي في إطار تلك التهديدات بقصد تحريك ملف المناطق الثلاث قبل التاسع من يوليو الجاري. الآن الجنوب قد أصبح دولة مستقلة وما زالت قضايا المناطق الثلاث عالقة تحتاج لحلول، وهذا يعني أن السودان قد أصبح معروضاً في سوق الدلالة بثمن بخس!! يمكن النظر إلى هذا الاتفاق الإطاري أنه خطوة أولية على طريق معالجة قضية جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، ومن خلال النقاش في المفاوضات القادمة التي ستعقب هذا الاتفاق الإطاري يمكن التغلب على كل النقاط المتحفظ عليها لأن هذا الاتفاق ليس اتفاقاً نهائياً. هذا الاتفاق الإطاري في عمومياته لا غبار عليه، بالرغم من بعض الثغرات الموجودة فيه وتلك هي صفة ملازمة لكل الاتفاقيات المشابهة، حيث إن كل الاتفاقيات تمثل الحد الأدنى الذي يمكن الوصول إليه تحت الظروف الماثلة. الدكتور نافع بحسه الأمني والسياسي ووطنيته الصادقة وذكائه الخارق لا يمكن أن يقوم بتوقيع اتفاق يمكن أن يؤتى السودان من قبله. ملاحظاتي عن الاتفاق أنه قد أتى عبر الوساطة الإفريقية التي تمثلها اللجنة التحضيرية ذات المستوى الرفيع التابعة للاتحاد الأفريقي وهي ذات اللجنة التي تقدمت بمقترح القوات الأثيوبية للانفتاح بمنطقة أبيي تحت الفصل السابع!! كذلك إن مكان توقيع هذا الاتفاق يذكرنا بالدور الكبير الذي سبق أن قامت به أديس أبابا من قبل في عام 1972م عندما كتبت عمراً جديداً للتمرد الذي كان يحتضر والآن يتكرر نفس السيناريو، حيث إن حركة التمرد بجنوب كردفان تلفظ أنفاسها الأخيرة. من الثغرات الرئيسية التي وردت في هذا الاتفاق ما جاء بالمادة (12) التي تقرأ: «اتفق الطرفان على منح اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الإفريقي أن تكون طرفاً ثالثاً في ما يتعلق بالمنطقتين والمجموعة مجتمعة ويجوز لها طلب المساعدة من أي طرف آخر للمساعدة في تنفيذ المهمة». يذكرنا هذا بأصدقاء الإيقاد وشركاء الإيقاد والدور الكبير الذي قامت به منظمة الإيقاد في انفصال الجنوب. كما يذكرنا أيضاً بلجنة الخبراء سيئة الذكر التي تجاوزت صلاحياتها في توضيح حدود أبيي. أفادت بعض التسريبات أن لجنة الوساطة قد هددت بأنها ستطالب بحق تقرير المصير للمنطقتين في حالة عدم الاستجابة لمقترحها المقدم للشريكين. إن صحت هذه التسريبات فإن المصلحة العليا للبلاد تتطلب عدم السير في هذا الاتفاق. أشك كثيراً في مصداقية هذه التسريبات لأن شخصية د. نافع القوية لا يمكن لها أن تستجيب أو تخضع للضغوط. الثغرة الرئيسية الأخرى في هذا الاتفاق الإطاري تضمنها البند (4) الذي يقرأ: «أكدت الأطراف على حق قطاع الشمال للحركة الشعبية في الاستمرار كحزب سياسي قانوني في السودان». هذا البند أثار كثيراً من اللغط والجدل وهذا مؤشر على أن ياسر عرمان قد حقق كل ما كان ينادي به. صحيح أنه لا يمكن حظر النشاط السياسي لأفراد الحركة الشعبية من الشماليين ولكنه يمكن لهم أن يمارسوا نشاطهم السياسي عبر الأحزاب السياسية الوطنية القائمة، أما الاستمرار بذات الاسم القديم فهذا يمثل استفزازاً لمشاعر المواطنين ولا مبرر لذلك. ثغرة أخرى تضمنها البند (8) الفقرة الفرعية (د) التي نصت على: «إدماج أعضاء الحركة من ولايتي جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق داخل القوات المسلحة والأجهزة الأمنية». إذا وضعنا في الاعتبار أن عدد المقاتلين التابعين للولايتين يقدر بعدد (40) ألف مقاتل تقريباً فلا شك أن هذا العدد الكبير سيؤثر في قومية القوات المسلحة والأجهزة الأمنية وستكون له انعكاساته السلبية على منظومة الأمن القومي السوداني. هذا الاندماج يذكرنا بما تم في اتفاقية أديس أبابا 1972م التي كانت عبارة عن هدنة مؤقتة القصد منها الحفاظ على حركة التمرد وما يؤكد صحة ذلك أن الحرب قد اندلعت بعدها في عام 1983م بصورة أكثر شراسة من سابقتها. لم يطالب قطاع الشمال بالاحتفاظ بجيشه نسبة لأنه لا يملك موارد للصرف عليه ويبدو هنا أنه قد استفاد من تجربة جيش حزب الأمة!! من الملاحظ كذلك (الدغمسة) والغموض وعدم الوضوح الذي اكتنف البنود الخاصة بالترتيبات السياسية. تبرز أهمية الدراسة المتأنية لهذا الاتفاق الإطاري بواسطة لجنة مختصة للوقوف على كل الثغرات للعمل على معالجتها في المفاوضات اللاحقة حتى لا يقودنا هذا الاتفاق الإطاري إلى نيفاشا ثانية. ختاماً أتمنى أن يتجاوز المؤتمر الوطني خلافاته التي بدأت تطفو على السطح حول هذا الاتفاق الإطاري بالحكمة والموضوعية والمؤسسية، وينبغي النظر إلى هذه الخلافات على أنها دليل صحة وعافية، فهي مؤشر للوطنية الصادقة. وبالله التوفيق. فريق أول ركن زمالة كلية الدفاع الوطني أكاديمية نميري العسكري العليا