نصف ساعة فقط تجعلك تفقد مزاجك وربما صحتك وسلامتك وسلامة سيارتك وأنت تقطع (15) كيلومتراً هي كل المسافة للطريق الرابط بين الدويم وشبشة، والآن وبعد جسر الدويم انكشفت عورات هذا الطريق الوعر والمزعج والخطير وقد كانت المعدية بالأمس تقاسم طريق شبشة الدويم العذاب أما اليوم فإن اللعنات تلاحقه وحده. أحياناً يتوقف السائق على هذا الطريق حتى يستجمع أنفاسه ويمسك برأسه حتى يجنبه الرعاش الاهتزازي للحظات قبل أن يبدأ جولة أخرى مع (الدقداق) وصاحب السيارة يشفق على سيارته ويخشى أن يطير سقفها أو يقتلع الطريق أجزاءها أو ينزع سيورها وتوصيلاتها ومقاعدها بمن فيها ولن يستطيع أحد كائناً من كان أن يتجنب (الدقداق) حتى لو سار بسرعة واحد كيلومتر في الساعة وصاحب السطور جرّب كل هذه المحاولات والمهارات وفشل حتى اهتدى أخيراً إلى السرعة الصفرية وهي الحالة الوحيدة المنجية من (الدق) على الرأس ولكنها تحرمه من الوصول إلى شبشة أو إلى الدويم في رحلة العودة. لك أن تتخيل أثر هذا الطريق على امرأة حبلى انطلق بها ذووها إلى مستشفى الدويم لإسعافها لعدم وجود الاختصاصيين بمستشفى شبشة ولضعف التجهيزات في هذا المستشفى الذي يقدم خدماته لأكثر من مئة ألف مواطن شمال الدويم وفي الخريف تتضاعف المأساة وقد فاضت أرواحٌ وسط أوحال هذا الطريق حين حبستهم من الوصول إلى مستشفى الدويم، وكذلك يبرع أهلنا الشباشة في توثيق ذكرياتهم الحزينة مع هذا الطريق حين يطلقون على بعض المواقع أسماء الضحايا فهذه (لفة فلان) وتلك (نزلة علان). الطريق التفتت إليه حكومة مايو وعرفت أهميته، فانتهت من أعمال الردميات والجسور منذ العام 1978م وكان من المفترض أن تكتمل سفلتته في العام الذي يليه ومن يومها ظل الطريق يتآكل إلى أن أصبح أثراً بعد عين أما كافة حكومات الدويم والولاية فقد تجاهلته تماماً وكذلك يتحمل المسؤولية أبناء شبشة المتنفذون الذين شغلوا المناصب في كافة العهود التي تلت حكم النميري وكذلك يتحملها أبناء الدويم بمن فيهم المتعافي الذي بدأ حياته طبيباً بمستشفى شبشة فكان من الأوجب على هؤلاء جميعاً قبل أن نتهمهم بالخيانة العظمى لشبشة، السعي لإنجاز الطريق، وأعلم تماماً أن ذلك ليس بعسير وهو أهون من شربة ماء وحتى لا يصفني أحد بأنني أجهل الكلفة العالية لصناعة الطرق أقول لهم أعلم كل ذلك وفي ذات الوقت أعرف كيف يتم إنجاز هذا الطريق فقط إن وضعه (أصحاب المصلحة) ضمن اهتماماتهم وسعوا له بجد ولكن يبدو أن أبناءنا - وأنا منهم - لا ينفعلون بقضايا أهلهم بالقدر المطلوب وقد شغلتهم أنفسهم عنها وقد صارت شبشة بلا وجيع وهي التي قدمت الكثير للسودان من قادة سياسيين وعسكريين وأكاديميين ورجال دين وشهداء. هذه المدينة منذ عهدها الأول لم تتلق من كل الحكومات التي تعاقبت ما تستحقه من مرافق وخدمات وقد أنجزت كافة مشروعاتها من أموال بنيها وتضحياتهم، ففي العام 1980م بنوا مستشفاهم في معركة تاريخية شاركت فيها نساء شبشة وقد دفعن وقتها تسعة آلاف جنيه وهي تعادل بحساب اليوم تسعين ألف جنيه، وفي العام 1998م أناروا مدينتهم وربطوها بالشبكة القومية من حر مالهم، وفي العام 2002م انتهوا من إنشاء شبكة المياه وتم ربطها بالنيل عبر الترعة الرئيسية وبعد أن اكتمل المشروع جاءت الحكومة وتسلمته وقفزت بفاتورة المياه إلى ثلاثة أضعاف فصرنا ندفع للحكومة أكثر من الذي تحتاجه المحطة لتشغيلها وقبل ذلك وبعده أقاموا مدارسهم وأنديتهم ومركزهم الثقافي ومساجدهم ورياضهم وكافة منشآتهم العامة دون أن تدفع لهم كافة حكومات السودان المتعاقبة فلساً واحداً. أحياناً أشعر أن الحكومات تستغل أهلنا وتستغل أفضل ما اتصفوا به من خصال وهم يقبلون على العام وكأنهم يقبلون على بيوتهم وفي هذه الأيام تحديداً يتقاسم عدد من الرائعين من أهلنا الشباشة تشييد فصول مدرسة أساس على نفقتهم الخاصة وقد اكتمل عدد من الفصول وستكتمل البقية بما فيها مكاتب المعلمين دون أن تتدخل الحكومة وغداً سيجلسون التلاميذ من حر مالهم مثلما شيدوا الفصول. أيها السادة الحكام في بحر أبيض وفي المركز ألا يستحق هؤلاء القوم الإنصاف والالتفات إليهم ولو لمرة واحدة وهم على استعداد وبمشاركة المحلية على القيام بتأهيل الردميات وصيانة الجسور على أن تتحمل حكومة الولاية والمركز كلفة الشريط الأسود (السفلتة) وبذلك تكون حكومة الإنقاذ هي أول من أنصف أهلنا الشباشة. هذا كله لا ينفي أن هناك مجهودات مقدرة لقيادات المنطقة ولكن الطريق وما يعانيه أهلنا هو المحك الحقيقي لمن أراد أن يعمل.