• هي رحلته الأخيرة عن عالمنا.. عن حياتنا وعن بصرنا وعن سمعنا.. لن نراه بعد اليوم وعند هذه اللحظة تحديداً انفجرت باكياً.. حقيقة أنا الآن أبكي وتلتزم جوانحي تسليماً مقيماً بقضاء الله وقدره وأمامي رحلة إلى الموت قطعت في وجهتها مشواراً طويلاً، ربما دنت النهايات وعند هذه اللحظة يتملكني فرح يخالط الحزن وكأنني أمام عتبة اللقاء.. كأنني سألتقي (صلاح عثمان).. عذراً عزيزي القارئ أنا أكتب عن حالة تهبط إلى حياة كل شخص عندما يخطف الموت عزيزاً له مثل صلاح. • عالم الحزن يتسع خيطه الرفيع في صعوده إلى تلة هناك زحفت نحوها أحزان أهل (صلاح) ومعارفه وأصدقائه، في مقدمة الحزانى رجل يتوسط السبعين من عمره، عزّ على الناس إبلاغه بوفاة ابنه وهم يدركون صبره وإيمانه ولكن هول المصيبة جعلهم يجزعون وأخيراً تخبره ملامحهم وحالة الانفجار الوشيك حين تتشابك وجوههم ووجه والد صلاح، وفي لحظة واحدة يرتمون إلى حضنه وتنطلق موجة بكاء تنفطر لها القلوب ويدرك الرجل السبعيني أن أنبل وأنضر وأعظم وأفضل ما قدمه لمجتمعه وأهله وعشيرته قد خطفه الموت.. بكى الرجال في ذلك اليوم كما لم يبكوا من قبل وآخرون ألجمتهم المصيبة وحبستهم عن البكاء فارتجفت أبدانهم وانهارت قواهم ووسط كل ذلك تنطلق صيحات الرجل السبعيني وهي ترد كل شيء إلى الله سبحانه وتعالى وقدره ومشيئته (صبرني يا الله)، وخلف كل صيحة تنخرط الأبدان الحبيسة المرتجفة وهي تصالح البكاء والدموع فتبكي بأقصى ما تملك من طاقة، يومها لم يصمد أحد وكأن الصمود في تلك الساعة خيانة لتلك القيم وتلك الروح المتصالحة التي لم تخاصم أحداً طيلة حياتها وهي تيمم الخمسين. • الآن مرت أكثر من أربعين يوماً على رحيل (صلاح) وفي داخلي رغبة تكاد تسيطر على مجمل تفكيري - كيف يمارس عثمان السماني (والد صلاح) حياة الحزن وكيف يحتفظ بحزنه وهو رجل عميق الإيمان وكيف هي حياة (إخلاص) زوج صلاح وصغيراتها وابنها البكر عثمان هناك في أقصى شرق الكرة الأرضية يغالب الغربة ورحيل أبيه، وأي أب هو؟؟ ومن هناك من أقصى غرب الكرة الأرضية زحفت (رباب) شقيقة صلاح هي وحزنها ومن جدة قدمت (سلوى) بعد رحيل صلاح وكأنهن قدمن من أجل لحظة هي أنبل لحظات الحزن على الإطلاق وهن بين يدي أبيهن وأهلهن وصغيرات صلاح والدويم بكل تفاصيلها التي شهدت تميزه ونسيجه الفريد وإجماع الناس عليه وهذا وحده ما يجعل رحيل صلاح مربوطاً وموثوقاً بالقيم والنبل والعفاف والطهر وأكاد أجزم أن حياتنا لم تثمر أفضل من هذا الرجل على الإطلاق ولذلك أطارد الحزن وأستكشف معالمه وأسراره وفرحه الذي يخالط كلما زهدنا في الحياة وتمنينا لقاء صلاح. • حياة هذا الشهيد لم تكن حياة يعتادها الناس، هي يا سادتي حياة تزخر بما ألفينا عليه الصالحين والصادقين وهم ثلة من الآخرين.. رجل يداوم على صَلاته وصِلاته ولم يخاصم قط ويحتمل ما يعجز عنه أكثر الناس صبراً واحتمالاً ويباشر حياته بالسهل الممتنع وبساطة تضيف إليه الكثير وترفع من شأنه، وموته فتح على معارفه وأهله باباً للزهد وإصلاح الحال قبل بلوغ المآل ووصل ما انقطع عودة وأوبة إلى الأهل وإلى الضعفاء والبسطاء الذين كانوا على صلة بالشهيد وكثير من الناس لا يذكرونهم ولم يكن الشهيد يملك أكثر من حاجته ولكن كانت بركته تحمله إليهم فيتقاسم معهم حلاله وإن قلّ. • العزاء دائماً عند رحيل هؤلاء هو إجماعنا عليهم دون أن يشذ أحد وهذه الأمة لن تجتمع على باطل أبداً وهي قد تعرّفت على الخير ورجاله وقد تتابعت الأيام والسنوات تختبر فعالهم وأقوالهم حتى أيقن الناس أنهم بين يدي كريم خصال وعزيز مفضال الجنة بإذن الله مثواه وبركة عظيمة تنزل على أسرته الصغيرة والكبيرة تحملهم على الصبر والخير بقدر ما كان صبرهم ونبلهم وهم كما عرفتهم أسرة من كيمياء وفيزياء فريدة على رأسها رجل أحسن تربية أبنائه وأفاض في الخير على أهله ذلك هو عثمان السماني علامة بارزة في مدينة الدويم ورفيقة دربه المرحومة (آمنة بت عبد العليم) التي قلّ أن يجود الزمان بمثلها فيا لها من امرأة عظيمة.