أحدثكم اليوم من داخل عالم الحزن.. أحدثكم عن رجل لا تعرفونه ولكنكم تعرفون خصاله وأجمل ما في الإنسان من أشياء كثيرة وعظيمة ينثرها في حياته بين الناس دون أن يرهق نفسه التي جبلت على جلائل الأعمال وطيب المعشر وصفاء السريرة.. أحدثكم عن رجل خطفه الموت مساء فأضاءت دموع مودعيه سماء مدينته الدويم في تلك الليلة التي رحل فيها ووري الثرى. رجل يحملني إلى عالم الحزن مثلما يحمل المئات وفي مقدمة هؤلاء والده وزوجه وأبناؤه وأخواه وأخواته وأصدقاؤه ومعارفه وعشيرته ولكل واحد من هؤلاء عالم يختلف عن عوالم الآخرين رغم عناقهم وتشابك نحيبهم وأنفاسهم ودموعهم فكل واحد يتخيل الحياة بدون (صلاح عثمان) منطلقاً من الحياة التي عرفها، وقد كان صلاح قاسمها المشترك وطعمها ولونها ورائحتها، لكل واحد من هؤلاء مع (صلاح) كلمات بعينها وطريقة مغايرة من الملاطفة والود وحكايات من الوصل الجميل في حياة البشر وهو يحرص على الوصال حتى مات وهو عائد من معاودة أهله في أتراحهم وقد استقبل الرجل صباحاً جثماناً وواراه الثرى بمقابر البكري وغادر بسيارته ليلحق معزيّاً في وفاة آخرين بمنطقة الدويم شبشة ويعود مساء إلى الخرطوم فيقطع عليه القدر طريقه وحياته عند منطقة القطينة على الطريق العام وعندما هرع إليه رفاق رحلته الأخيرة ليسعفوه يسألهم عن عمه (عبد الحليم) كيف هو؟ فينتشرون سراعاً يبحوث عن العم فيجدونه داخل السيارة وهو بخير، وعندما يعودون إلى (صلاح) يجدونه يردد الشهادة كاملة أربع مرات ويسلم الروح إلى بارئها. الرجل الذي أحدثكم عنه هو في حياته يوازي موجة الحزن التي اجتاحت الدويم عند رحيله ولو كانت للحزن أفاق أوسع من هذه التي عليها الناس لتسابقوا إليها وهم يرددون في غمرة كل ذلك كلمات التسليم بقضاء الله وقدره ويسألونه الصبر وحسن العزاء وأن يثبتهم ويلطف عليهم في مصيبتهم. بدأ صلاح عثمان معلماً ثم هاجر إلى دولة الكنغو (زائير) فعمل في التجارة وصنع اسماً وبنى ثروة وصار علماً من أعلام السودان بتلك الدولة الأفريقية الجارة، ونشط في خدمة الجالية السودانية وكل سوداني تطأ أقدامه أرض الكنغو وقد سجل له التاريخ وقفة قوية مع القوات السودانية التي تدفقت إلى الكنغو بعد سقوط حاميات غرب الاستوائية في تسعينيات القرن الماضي وظل الرجل يؤويهم ويطعمهم ويسقيهم لأربعة أشهر وينجح في إعادتهم إلى أرض الوطن بكامل أسلحتهم الثقيلة والخفيفة لتكرمه رئاسة الجمهورية بنوط الواجب دون أن يطلب مليماً واحداً مقابل ما أنفقه، وقد حدثني رجل أثق في روايته أن ما أنفقه صلاح ورفاقه على تلك القوات يمكنهم من شراء السوق العربي بكامله. عاد الرجل إلى وطنه منذ عشر سنوات وبدأ حياته التجارية من الصفر وبدأ يطرق أنشطة جديدة في نشاطه التجاري ويكتب الله له التوفيق فيها وقد حفلت هذه السنوات العشر بحياة فريدة تجسدها شخصية فريدة ومستحيلة لن يحصل عليها إلا من سمت نفسه وتعالت عن الصغائر فتجده رحيماً بأهله لا ينقطع وصله أبداً ولا تفتر عزيمته وهو عند أهل بيته وأسرته الكبيرة نموذج لرجل الأسرة والبيت. صلاح هو الابن الأكبر لعثمان السماني أحد كبار أعيان منطقة الدويم شبشة وقد زرع هذا الرجل في أبنائه كيمياء اجتماعية فريدة تمنيت لو كنت جزءاً من طينتها ومهما استجمعت من المفردات والعبارات لأصفها لك عزيزي القارئ فلن أستطيع.. هي وصفة تراها أمامك في حياتهم مع الناس على نسق السهل الممتنع دون أن تحيط بها وصفاً أو ممارسة، هي حياة عصية إلا على أولاد عثمان السماني وعلى رأسهم صلاح طيب الذكر والسيرة. ووالدتهم المرحومة آمنة بت عبد العليم صحابية تسللت إلى عصرنا هذا وسريعاً غادرته وأقسم بالله العظيم أنني أحبس داخل صدري قناعة منذ أن كانت بيننا أنها من أهل الجنة.. هي امرأة تصوم وتكرم ضيوفها وقد حدثني عمي أنه عاش في بيتها سنوات طويلة ولم يسمع لها صوتاً غير تلك الكلمات المعدودات التي تتفوه بها. من هذه الأسرة الكريمة خرج صلاح عثمان إلى المجتمع فأحبه الناس ولم يعاده أحد ولم أشهد في حياتي عالماً من الحزن مثل الذي نحن بين يديه الآن وذات الحزن هو ما يدعوني لأكتب بدلاً من أن أحتجب.. اللهم ارحم صلاحاً وتقبله شهيداً وأكرم نزله وصبّر أهله وذويه.. إنا لله وإنا إليه راجعون.