يقول اللّه تعالى «سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتي يتبين لهم أنه الحق»، حيث يتحدى اللّه الكفار أنه سيظل (يقهرهم) بالآيات العلمية الدامغة التي تؤكد ربوبية اللّه سبحانه وتعالى الخلاق العليم. وقد كانت من أكبر الاستكشافات العلمية التي اكتشفت حديثاً والتي تؤكد إعجاز اللّه المبدع هي ما يعرف ب(الحمض النووي DNA) والذي شكّل ثورة علمية في مجال كيفية خلق وإنشاء الأجنة حيث اكتشف العلماء البريطانيون أن كل جزئ في جسم الإنسان يحتوي علي (نواة) وداخل هذه النواة يوجد سائل خليط يسمى (الكروموسوم) وهذه (الكروموسومات) عددها (64كروموسوم) في جسم الإنسان وهذا العدد ثابت في كل الخلايا البشرية للإنسان، وهذه (الكروموسومات) تتواجد داخل النواة في شكل مجموعات مزدوجة (اثنين اثنين) أي أن الخلية بها (32 زوجاً)، وداخل هذه الكروموسومات توجد عدد من الأحماض النووية أشهرها هو(الحمض النووي DNA) الذي يتكون من خليط من مادة سكرية وفوسفات ونتروجين، وهذا الحمض النووي يتواجد داخل كل الخلايا البشرية بتركيبة ثابتة في الجسم الواحد وهو يحمل كل المعلومات الوراثية للإنسان وهو مثل (بصمة اليد) لا يتشابه أبداً بين البشر ولذلك يطلق عليه (البصمة الوراثية) للإنسان، لذلك ووفق هذه الصفات أصبح (الحمض النووي DNA) من أدلة الإثبات الكبرى التي أصبح يستخدمها الغربيون في مجالات المحاكم لإثبات النسب وفي مجالات التحقيقات الجنائية وكشف غموض كثيراً من الجرائم عبر تحليل بعض الآثار التي يخلفها المجرمون مثل (الدماء والعرق) التي عبر تحليل حمضها النووي يمكن معرفة صاحبها، وهذا الحمض النووي هو حقيقة علمية مثبتة ولا مراء فيها، إلا أنها في عالمنا الإسلامي لا تصلح أن تكون دليلاً مطلقاً للإثبات في المحاكم ، وليس هذا تشكيكاً في الحقيقة العلمية حول وجود (الحمض النووي DNA) واستخدامه (كبصمة وراثية) ولكن لأن فلسفة التشريع الإسلامي تختلف اختلافاً كلياً عن فلسفة التشريع في الغرب العلماني، وأنا هنا أشير إلى أن قضايا إثبات النسب في الإسلام غالباً ما تكون مرتبطة إما بالزنا أو بعمليات الإختلاط التي تحدث عمداً أو خطأ في حالات الولادة، وسوف أركز هنا على الحالة الأولى (حالة إثبات الزنا) باعتبار أن الحالة الثانية نادرة ولا ترتب إشكالات اجتماعية أو أخلاقية أو دينية مثل حالة الزنا، ولذلك عند النظر إلى طريقة إثبات جريمة الزنا في الإسلام نجد أنه اشترط (أربعة شهداء) واشترط على الشهداء (الأربعة) أن يكون كل واحد منهم رأى عملية زنا كاملة الأركان كما وصفها الشرع أي أن يرى الشاهد (المرود في المكحلة). ومن هذا الشرط يلاحظ أنه يتعذّر على أي إنسان وبدرجة كبيرة أن يتمكن من الرؤية بهذه الكيفية، كما أنه يصبح من النادر جداً أن يجتمع (الأربعة) شهداء في لحظة واحدة أثناء وقوع مثل هذه الجريمة ولذلك يبدو واضحاً جداً (والله أعلم) أن فلسفة التشريع الإسلامي من وضع هذه الشروط التي تبدو أقرب للتعجيز ليست هي إثبات جريمة الزنا وإنما هي (منع الشهود) وزجرهم هن الإدلاء بشهادتهم خاصة إذا وجدنا أن التشريع الإسلامي أوجد (كابحاً آخراً) يخوف الشهود ويمنعهم من الأدلاء بأي شهادة غير مكتملة الأركان في حالة الزنا إلا وهو (حد القذف ثمانين جلدة) لمن قام بالشهادة دون استيفاء كل تلك الشروط الواجبة لإثبات الزنا مع ملاحظة أن الفقه الإسلامي يجيز قبول شهادة (شاهدين اثنين) فقط في قضاياه الأخري باستثناء الزنا الذي فرض له(أربعة شهود) وهذا يشير إلى أن الإسلام يريد (الستر) وعدم إطلاق الاتهامات غير اليقينية في مجال الزنا، وذلك حتي لا تبني المجتمعات الإسلامية على الشكوك والريب، وما يؤكد هذه الفلسفة الإسلامية التي تخوف وتزجر من الشهادة في مجال الزنا هي الممارسة العملية في عهد الرسول صلى اللّه عليه وسلم وفي عهد خلفائه حيث أنه (حسب ما أعلم) لم يطبق قط الرسول صلى الله عليه وسلم أو خلفاءه حد الزنا (المثبت بأربعة شهود) وإنما كل الحدود التي طُبقت طُبقت في أشخاص (اعترفوا) من أنفسهم بممارسة الزنا وذكرت السيرة أن هؤلاء المعترفين كان الرسول صلى الله عليه وسلم يجادلهم أشد مجادلة لإثنائهم عن اعترافهم مما يؤكد أيضاً أن الإسلام يكره حتي شهادة الإنسان على نفسه بالزنا، كما تشير السيرة أيضاً أن سيدنا عمر جلد (أربعة) شهود كانوا قد اتهموا بالزنا واليه على البصرة (المغيرة بن شُعبة) رضي الله عنه جلدهم قذفاً رغم أن ثلاثة منهم شهدوا بالزنا ضد المغيرة بن شعبة رضي الله عنه وتردد الشاهد الرابع، ولذلك وعلى ضوء هذه الفلسفة الإسلامية التي تحرض على عدم قبول أي دليل إثبات في حالة الزنا إلا عبر شهادة (أربعة) شهود وعبر رؤية يقينية بالمشاهدة الحسية لعملية الزنا كاملة الأركان، فهل يصلح الحمض النووي ليكون دليلاً لإثبات أو نفي النسب والذي يمكن أن يؤدي بصورة غير مباشرة لإثبات عملية الزنا في محاكمنا ووفقاً لفلسفة تشريعنا الإسلامي - حيث يبدو واضحاً جداً أن (الحمض النووي DAN) لا يصلح دليلاً وليس ذلك تشكيكاً لحقيقة وعلمية (الحمض النووي DNA) ولكن ذلك لأن تحليله يتم عبر (حلقة من البشر) هم الفني الذي يأخذ العينة والفني الذي يحللها والطبيب الذي يفسر التحليل ويكتب النتيجة والموظف الذي يطبع هذه النتيجة والموظف الذي يسلم النتيجة وهنا على الأقل خمسة أشخاص يمكن لأي شخص منهم إما عمداً أو سهواً ارتكاب خطأ ما يمكن أن يترتب عليه اتهام ودمار كامل لشخص آخر وهذا ما جعل بعض علماء الأزهر الشريف يشترطون شرطين قبل قبول (الحمض النووي DNA) كدليل إثبات أو نفي في المحاكم، الشرط الأول هو تحقيق أكبر قدر من يقينية التحاليل المعملية، والشرط الثاني أن يكون من قاموا بالتحليل أشخاص أمناء وعدول وموثوق بهم ، ولذلك عندما نرجع للتطبيق العملي نجد أنه في كل العالم الإسلامي لا توجد تقنية تحليل (الحمض النووي DNA) وبالتالي غالباً ما ترسل العينات إلي معامل الدول الغربية، ومعروف أنها قد تتعامل بشرف وصدق كبيرين عندما تتعلق الحالة برعاياها أما عند تعاملهم مع المسلمين فإن تعاملهم تشوبه كثير من الشكوك وهم عندنا غير موثوقين، ولذلك فإن معاملهم وأطباءهم وحتي صغار موظفيهم هم أشخاص غير موثوقين خاصة في ظل ظاهرة (الإسلام فوبيا) التي تجتاح العالم الغربي وفي ظل استخفافهم الدائم بالعالم الإسلامي ورعاياه. وما ذكرته حول عدم صلاحية (الحمض النووي) كدليل إثبات ينطبق أيضاً على (الموجات الصوتية) وإمكانية الاعتماد عليها كدليل إثبات بدلاً عن(عدة النساء) حيث أن الموجات الصوتية ورغم أنها حقيقة علمية إلا أنها أيضاً تتوقف على مدى صدقية مشغليها ولذلك فإن الإسلام في قضايا النسب والأرحام لا يقبل إلا الأدلة الحسية المشاهدة من الشخص موضوع الاتهام ولا يقبل الإسلام الشهادات الظنية التي تتوقف على مدى صدق وكذب الشهود الذين (يشغلون الآلة الصماء) والتي تعتمد أيضاً على آلة صماء ينتابها العطل والخطاء. ما دعاني لهذا المقال هو أنني استمعت لحلقة تلفزيونية قدمها عالمنا الجليل المجتهد الدكتور إبراهيم أحمد عثمان قاضي المحكمة العليا دافع فيها بضراوة حول أهمية اعتماد (الحمض النووي DNA) كدليل إثبات أو نفي في المحاكم .