في العاشر من ديسمبر من العام (1998) فاجأ عشرة من قيادات المؤتمر الوطني اجتماعا لمجلس شورى الحزب الحاكم بمذكرة فتحت جراحهم على اتساعها وتحدثت لأول مرة عن غياب المؤسسية وغياب الشورى وهيمنة الأمين العام للحزب الذي هو في نفس الوقت الأب الروحي لهم، هيمنته على الأداء بصورة تقدح في هيبة الدولة، ومضت المذكرة أكثر من ذلك عندما طالبت بتقليص صلاحياته كأمين عام وتخويل بعض منها لرئيس الجمهورية الفريق البشير ساعتها، وكانت تلك المذكرة التي حررت شهادة وفاة (الإخوان) على تماسكهم وأحالت الترابي إلى الضفة الأخرى، وقصمت ظهر الإسلاميين. مركز الدراسات الإستراتيجية كان هو الفرن الذي طبخ فيه عشاء الخلاف الأخير، وكان تحت سقفه ثلاثة شباب من مثقفي الإسلاميين هم الدكتور بهاء الدين حنفي، والأستاذ سيد الخطيب والمحبوب عبد السلام.. صعد اثنان منهم إلى قيادة مسيرة الاحتجاج بينما بقي المحبوب يراقب تطوراتها المخيفة، ولكن بعد كل تلك السنوات التي انصرمت وبعد أن بلغ الخلاف عمر الرشد كيف هو حال الذين وقعوا تلك المذكرة، وأين رست بهم سفينة الإنقاذ؟ هل جميعهم على قيد الحياة وماذا يفعلون الآن، وهل هم على قلب رجل واحد اليوم؟! ثمة رواية تتحدث عن تبدل في شخوص مذكرة العشرة إذ لم يكونوا نفس الذين خرجوا بها للعلن، فهي قد دبرت بليل كما يرى البعض، ولكن المتأمل في هؤلاء الأشخاص يشعر بعد كل تلك السنوات بمقاربة تلك الرواية، والموقعون هم الأستاذ سيد الخطيب، الدكتور غازي صلاح الدين، البروفيسور أحمد علي الإمام - كان في ذلك الوقت حاصلاً على الدكتوراه فقط - الأستاذ حامد تورين، العميد بكري حسن صالح، البروفيسور إبراهيم أحمد عمر والدكتور بهاء الدين حنفي، مطرف صديق، الدكتور نافع علي نافع والأستاذ عثمان خالد مضوي. هناك من يعتقد أن الدكتور بهاء الدين حنفي هو غورباتشوف المذكرة لاعتبارات تتعلق بخلاف مزمن بينه والترابي وهو بحسب رأي القيادي بالحركة الإسلامية أحمد عبد الرحمن كان يعمل لها منذ الثمانينيات إذ هو على خلاف مبكر مع الشيخ، غير أن الدكتور بهاء الدين حنفي وهو شقيق الصحفي بصحيفة (الرأي العام) الدكتور كمال حنفي قد بدا في آخر حوار له بذات الصحيفة وكأنه نادم على المذكرة، فقد أبدى تحسرا على ما انتهت إليه الأوضاع والمآلات، بهاء الدين كان في ذلك الوقت يشغل مدير مركز الدراسات الإستراتيجية بينما هو اليوم سفير السودان بجمهورية ألمانيا الاتحادية وقد عاد إلى الخرطوم قبل أيام في إجازة قصيرة. أما الأستاذ سيد خطيب فيشغل اليوم موقع مدير مركز الدراسات الإستراتيجية ذات الملاذ القديم وقد اشتهر بوصفه أحد أبرز أعضاء فريق اتفاقية نيفاشا التي استحالت إلى الانفصال، سيد الخطيب لزم الصمت لفترة طويلة ولم يخرج للرأي العام إلا بانتهاء أمد الاتفاقية ليقدم مرافعته الأخيرة حولها وكان ذلك في برنامج (حتى تكتمل الصورة) بقناة النيل الأزرق وقد حصد من الاتهامات والهجوم ما جعله يتوارى كل تلك السنوات. من الموقعين على المذكرة أيضا الدكتور غازي صلاح الدين مستشار رئيس الجمهورية ومسؤول ملف دارفور، وهو في السابق كان رئيس وفد المفاوضات التي لم تفض إلى سلام مع الجنوبيين قبل أن يتسلم منه الملف نائب رئيس الجمهورية الأستاذ علي عثمان محمد طه ويحدث اختراقاً في عملية المفاوضات باتفاقية السلام الشامل التي تحفظ عليها غازي، ولكن الرجل ظل يشكل صوتاً ناقداً وناصحاً ويوصف من المناوئين للإنقاذ بالتشدد بينما يعتقد البعض أنه إصلاحي، وقد دخل في حالة حرج شديد بعد المفاصلة وذلك عشية تسرب مذكراته مع دكتور الترابي، وقد اتهم الشعبيين بتلك الفعلة، ولكنه فوق ذلك ظل يحتفظ لنفسه بمكانة أقرب إلى المفكر والمثقف من السياسي حتى طالب رئيس منبر السلام العادل المهندس الطيب مصطفى أمس الأول بتعيينه في موقع الرجل الثاني في الدولة مما أثار قافلة من الاستفهامات بخصوص ذلك الاقتراح. يتجلى في المشهد الراهن كذلك مساعد رئيس الجمهورية الدكتور نافع علي نافع الذي كان مديرا لجهاز المخابرات قبل المذكرة بزمن ليس بعيد، واليوم يشغل منصبا مهما وهو مساعد الرئيس لشؤون الحزب والممسك بملفات التنظيم بصورة جعلته الأكثر تأثيرا في الملعب السياسي، وقد شكل توقيعه لاتفاق السلام الإطاري في أديس أبابا قبل أكثر من شهر تحولا مربكا في صورته وبالرغم من النقد العنيف الذي تعرض له إلا أنه عاد واعتذر عن الاتفاق. يأتي كذلك مستشار الرئيس لشؤون التأصيل البروفيسور أحمد علي الإمام كواحد من الموقعين على المذكرة وقد كان في ذلك الوقت من المهتمين بحركة الإسلام السياسي والتنظير لبرامجها إلا أنه اختار بعد فترة من المفاصلة الانحياز للمؤتمر الوطني ومن ثم الانشغال بالعمل الدعوي، وله برنامج بالتلفزيون السوداني عن تفسير القرآن الكريم. أما وزير شؤون رئاسة الجمهورية العميد ساعتها بكري حسن صالح فهو يعتبر أحد أبرز المقربين للرئيس البشير وقد ظل يدير أهم الملفات الحساسة ومحل ثقة الرئيس ولكنه ظل يبدي زهدا واضحا في المواصلة، وقد اختلفت رواية انضمام الفريق بكري حسن صالح لأفراد المذكرة مما كان يعتقدها البعض موقفاً مسبقا، إذ تقول الرواية إن بكري أول شخص ينتمي للقوات المسلحة يؤيد المذكرة، وهو خامس الموقعين، وبحسب تمرحلات المذكرة، فقد تحمس لها حال إطلاعه عليها ووقع، ولم يعدم المحللون تفسيرا لحماس بكري لتلك المذكرة بالضرورة فهو منحاز لرئيس الجمهورية بحكم الصحبة والزمالة. كذلك من الموقعين عليها إبراهيم أحمد عمر الذي تبوأ بعد المفاصلة موقع الأمين العام للمؤتمر الوطني وقد كان يمثل الواجهة الإسلامية للحزب واستطاع أن يدفع عنه السهام وهو من المقربين جدا من الرئيس البشير وقد ظل يستمع له في كل صغيرة وكبيرة تخص الدولة حتى اليوم، وقد فضل الرجل في الفترة الأخيرة التواري عن النظام والاكتفاء بلقب قيادي بالمؤتمر الوطني مفسحا المجال للشباب ولكنه كان له دور خطير في مرحلة تماسك الإسلاميين في الدولة. رجل آخر من رجال الإنقاذ هو مطرف صديق بصبغته الدبلوماسية الذي كان يشغل موقع وكيل وزارة الخارجية قبل أن ينتقل منها إلى وزارة الشؤون الإنسانية الذي هو اليوم وزير دولة فيها، ويعد أحد أبرز نجوم فريق التفاوض مع الحركة الشعبية، وآخر تصريح يتذكره الناس له التوضيح المقتضب لما تم في أديس أبابا مؤخرا مع الحركة الشعبية بوصفه عضو الوفد المشارك في مفاوضات المؤتمر الوطني والحركة الشعبية، ولم يغادر الرجل بعض الدوائر الحية، بالرغم من الحديث الذي دار ساعتئذ وبعد توقيع اتفاق نيفاشا بعدم تولي أي فرد من ذلك الفريق منصبا سياسيا ولكن مطرف صديق ربما لم يلتزم بذلك التعاهد إذا صح بالأساس. الأستاذ حامد تورين والأستاذ عثمان خالد مضوي كاسمين انصرفت عنهما الأضواء ولم يشهد الناس لهما بروزا في السنوات الأخيرة وتكاد تكون المعلومات شحيحة بخصوصهما، ومن المعروف أن مولانا عثمان خالد مضوي لم يتبوأ منصبا تنفيذيا بعد قيام الثورة فهو ما كان يحسب أن الأمر له علاقة بالمناصب كما يقول، ولكن آخر ما خرج به الرجل هو حديثه عن طرحه لمبادرة مع رجل أعمال ليبي بين العقيد القذافي والمجلس الانتقالي لحقن دماء الشعب الليبي وقد رحب الطرفان بالمبادرة ولكن لم يتضح مصيرها بتطور الأحداث، أما الأستاذ حامد تورين فربما يكون هو الوحيد من أبناء دارفور الذين شاركوا في توقيع المذكرة، وهناك من يعتقد أن مشاركة تورين في المذكرة كانت لإعطاء الطابع القومي للمذكرة وأنها تمثل تمرداً شاملاً على الدكتور الترابي. (13) عاما مضت، وبعد كل هذه السنوات من عمر الخلاف الذي بدأ بمذكرة وانتهى بمفاصلة، يظل مصير الذين وقعوا عليها يدفع بحزمة من التوقعات فهم ليسوا على درجة تنظيمية واحدة اليوم وإن كانوا على قلب رجل واحد، فمنهم من ترقى في الحزب والدولة ومنهم من لزم الصمت ومنهم من ينتظر، وتتضح للمتابع لحركتهم اليوم أنه لا تكاد تجمع بينهم صفة سياسية مشتركة فقد انقسموا إلى فرقاء أو ما تم التعارف عليه بالصقور والحمائم وإن لم يتكشف للعيان بعد كيف أن واقع الحال اليوم هو منتهى طموحات أم أنهم ألقوا السمع وهم شهداء، فهل أصابهم الندم بعد أن حصد الإسلاميون ثمار تجربتهم المختلف عليها؟ هل ضاع هؤلاء أم ضاع منهم الطريق؟ أم أن مذكرات عشرة أخرى قيد التخلّق تتحرى الإصلاح والتغيير على مستوى الحزب والدولة؟ كل هذه الأسئلة وغيرها كفيلة بحسمها الأيام القادمة!!