(قرارات الرابع من رمضان كانت مدخلاً لكل الشرور التي يعيشها السودان) بهذه العبارة وفي واحدة من لقاءاته العام الماضي، علق نائب الأمين العام للمؤتمر الشعبي إبراهيم السنوسي وهو يعود بذاكرته لاثني عشر عاماً للوراء مستدعياً سيناريوهات الخروج الأخير يومذاك، مغمضاً جفنيه يستحضر مشهد الرئيس البشير وهو يقبع في تلافيف الذاكرة مُرتدياً بزّته العسكرية واقفاً ليقطع شعرة معاوية بين ما عرف بمعسكري القصر والمنشية لصالح مقر الرئيس في شارع النيل.. البشير يومها بَدَا أسطورياً يتجاوز كل المسلمات التي لا تحلم بالخروج على د. الترابي وأعلن انتهاء أجل المجلس الوطني الذي كان يرأسه د. الترابي، مُتخذاً احتياطاته بإعلان حالة الطوارئ في جميع أنحاء البلاد لمدة ثلاثة أشهر، وبعض القرارات الأخرى ذات الصلة التي تشكل في مجملها (مانفيستو المفاصلة) التي برر لها البشير باستعادة هيبة الدولة والسلطة.. قرارات الرابع من رمضان، طبقاً للعالمين ببواطن الأمور من أبناء ذات التجربة ومن مؤسسي المشروع، ما هي إلا انعكاس نهائي لتفاعلات وتململات داخلية أخذت في التصاعد على خلفية إجراءات قام بها الأمين العام للحركة الإسلامية وللمؤتمر الوطني د. الترابي في تشكيل الأمانة العامة ما يسمح للتعبير عن رؤاه وقراراته دون اعتراضٍ من أحد، وهو الأمر الذي لم يعجب دوائر كثيرة، رأت في ذلك انفراداً بالقرارات السياسية وازدواجية في قنوات اتخاذ القرار بالدولة، بالإضافة لتهميش بدا كاملاً لمجلس الشورى.. لتتبلور تلك الاحتجاجات وتأخذ شكلها النهائي فيما عُرف ب (مذكرة العشرة) التي يصفها الكثير من رموز الإسلاميين بالقشة التي قَصَمت ظهر البعير، بعد أن اعتبرها د. الترابي عُقوقاً من أبنائه يستوجب المقاطعة، ومؤامرة تستوجب التخوين، فكانت الصدمة التي آلت للذهول.. أسماء كثيفة واستنتاجات لا تنتهي حول أسماء أصحاب المذكرة القنبلة وأجندتها، فدخلت أسماء وخرجت أسماء، وتم توظيف أسماء وتم إخفاء أسماء كلٌّ بحسب أجندته وميوله، ليكون القول الفصل ما كشفه د. أمين حسن عمر في حوارٍ سابقٍ، عما تحويه مطالب المذكرة بتوسيع المواعين الديمقراطية وإتاحة مساحة أكبر في عملية المشاركة من خلال ضرورة أن تكون الأمانة العامة جهازاً مؤسسياً، كما يجب تكوين مكتب سياسي يتصل بالأمور التنفيذية والسيادية، على أن يكون رئيس المكتب السياسي هو رئيس الجمهورية حتى يكون جزءاً من الأداة التي تتخذ القرار المتعلق بأعمال الحكومة. كبرى مُفاجآت المذكرة المرهقة بحسب البعض والمريحة للبعض الآخر، غياب أسماء تَميّزت بعلاقات غير إيجابية أو دافئة مع د. الترابي مثل النائب الأول علي عثمان محمد طه، وغيره كثر من اسماء الموقعين على المذكرة (فضمت علي أحمد كرتي ود. سيد الخطيب ود. بهاء الدين حنفي ود. غازي صلاح الدين وبروفيسور أحمد علي الإمام وعثمان خالد مضوي وإبراهيم أحمد عمر ود. نافع علي نافع وحامد علي تورين وبكري حسن صالح).. وبعد حدوث المفاصلة وتجذر الخلاف بين الطرفين وترجمته في الشعبي والوطني، بدا جلياً انحياز أصحاب المذكرة الى القصر الرئاسي وما يبرز للعيان أنهم جميعاً انحازوا وعن قناعة. لعنة الخروج والحسم الرئاسي تلك، ألقت الكثير من (إخوان) الأمس أعداء اليوم، خارج كنف الدواوين والمكاتب الفخيمة، وفارهات السيارات، ووظائف التمكين، ليكون جلهم إما مغادراً للسودان أو (سوق الله أكبر) كما يقال بلغة العوام.. في مقابل تدرج كرتي ليستقر وزيراً للخارجية السودانية، ومضى سيد الخطيب مهندساً لاتفاقيات السلام والتفاوض بما في ذلك محطة أديس أبابا الحالية بضاحية بحر دار، بينما أصبح بهاء الدين حنفي غريماً استثنائياً للدكتور علي الحاج في ألمانيا التي استضافت قبل أسابيع بروفيسور أحمد علي الإمام الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي مستشفياً من علة ربما كانت مبرر القصر لإحلال عصام أحمد البشير في موقعه في أواخر الشهر الماضي. رجل المال والأعمال ومهندس اقتصاديات الجبهة الإسلامية خالد عثمان مضوي شهدت صحف الخرطوم اعلاناً يطالبه بتسليم نفسه لوكيل النيابة الأعلى، اعلان من فرط قسوته يحكي عن قضبان كانت مستقراً نهائياًُ للرجل.. أما د. غازي صلاح الدين فمن مستشارية السلام الى ملف دارفور وصولاً لرئيس كتلة نواب الوطني راكلاً تضمينه اية تشكيله حكومية اتساقاً مع توجهات التقشف، متفقاً معه في خطوته الأخيرة بروفيسور إبراهيم أحمد عمر، بينما ظَلّ الفريق أول بكري حسن صالح ملازماً الرئيس بالقصر الجمهوري. وبرغم إعلانه عدم ندمه على المشاركة في توقيع مذكرة العشرة، وسعادته بتداعياتها كما صرّح بذلك حامد محمد علي تورين، إلاّ أنّ تناقضات السياسة، ربما جعلت المثل (أكلت يوم أكل الثور الأبيض) ينطبق عليه، فغادر آخر مواقعه كوزير للتربية والتعليم وعضواً بالمؤتمر الوطني، ليؤسس حزب قوى السودان المتحدة، ضمن ما تزخر به الساحة السياسية من أحزاب. آخر الموقعين وربما أثقلهم وزناً هو د. نافع علي نافع، الممسك بأصعب الملفات داخل الحزب الحاكم نائباً لرئيسه للشؤون السياسية والتنظيمية، مساعداً للرئيس في القصر، لتكون أبرز المفارقات التاريخية أن د. الترابي كان معترضاً على تسمية د. نافع في أي ذراع سياسي يتبع للحزب. بعيداً عن أجواء فترة توقيع المذكرة الشهيرة قريباً من الأجواء التي تغطي سماء الإسلاميين هذه الايام، ثمة من يرى أن مذكرة العشرة فتحت الطريق لنقل وجهات النظر والمطالب والاحتجاجات عبر مذكرات فبرزت مذكرة (الألف أخ) تلتها أكثر من مذكرة ذات طابع إصلاحي أكثر من احتجاجى، بينما شكك المحلل السياسي المقرب من الوطني مصطفى عبد الله من إمكانية تحقيق اية مذكرة ما حققته مذكرة الإسلاميين المعروفة بالعشرة، لجهة الظروف التي تزامنت مع تقديمها والشخصيات التي وقفت وراءها حتى بلغ التصعيد مرحلة اللا عودة رغم اختلاف النية وعدم الرغبة في تفجير الانقسامات، وقال ل (الرأى العام) (المذكرة يومها حولت مطالبات إصلاحية وديمقراطية بين تيارين متقاربين في القوة والنفوذ وهما ما يعرفان بالقصر والمنشية، ونجح تيار بانحيازه للمذكرة في اقتلاع الجناح الآخر). وكشف عبد الله أن العامل الحاسم في أمر مذكرة العشرة واسهم في تغلب القصر على المنشية هو المؤسسة العسكرية. وأضاف: (الجيش أو المؤسسة العسكرية لا تدين الا لأحد ابنائها بغض النظر عن الايدولوجيا والأفكار والبرامج وغير ذلك من أحاديث، فوجود الرئيس البشير على سدة الحكم كان ضرورة فرضتها ظروف الثورة الوليدة آنذاك، وحدث تململ بفعل الإزدواجية الملاحظة في إدارة الدولة، بالاضافة لتلميحات د. الترابي ونقده العلني للجيش، ثم تخطيه لكل الحسابات ومطالبته الرئيس البشير بإعادة الجيش للثكنات وخلع الزي، كل ذلك عجل في ترجيح كفة الرئيس البشير وصدور قراراته في الرابع من رمضان بثقة أكبر في النفس مستمدة من انحياز جزء كبير من مدنيي الحركة الإسلامية والمؤتمر الوطني ممن تضرروا بانفراد د. الترابي بالأمر بالاضافة للمؤسسة العسكرية بأكملها). فالمذكرات الحالية ترفع اليوم لذات الجهة التي تدير البلاد والحزب دون منافس داخلي لها في المؤسسات بالتالى فان تبنى تلك المذكرات والعمل به او عدمه بعيدا عن مخاطر المنافسة أو التبني من قبل آخر يجعلها تخضع للظروف، ويردف مصطفى (بلا شك فان مذكرة العشرة اسست لتجربة جديدة في عرف الإسلاميين وكان لها أن تمر بهدوء لولا تعنت بعض الأطراف، خصوصاً د. الترابي، ما جعل الواقفين وراءها يحرصون على أن تنال حظها اللائحي ليتم نظرها داخل المؤسسات فكانت العاصفة).