روى لي الإمام الصادق المهدي زعيم حزب الأمة القومي في مقابلة كُنت قد أجريتها معه، أنه عندما اعتقل عقب 30 يونيو 1989م، وجد الضباط المكلفين باعتقاله مذكرة داخل «جيب» جلبابه وكانت تحوي برنامجا بديلا للبرنامج الانقلابي الذي عرف الناس بعد ذلك أنه برنامج الجبهة الإسلامية القومية. وعلى الرغم من أن الحادثة قد تثير شكوكا حول نوايا الصادق المهدي في تغيير مسار انقلاب 30 يونيو لصالح حزبه بالتحالف مع العسكر وإبعاد الإسلاميين عن انقلابهم، إلا أن السنوات قد أكدت خطل هذا التحليل وقتها، فقد جرت كثير من المياه تحت الجسر منذ ذاك التاريخ. بيد أن الحوار الذي يدور بشكل متقطع مؤخرا بين حزب الأمة والمؤتمر الوطني، يُعيد إلى الأذهان سيرة تلك الحادثة، خصوصا بعد أن استطاع الرئيس البشير – دون اللجوء إلى تحالفات من خارج حزبه- إبعاد العنصر الرئيسي في انقلاب الإنقاذ وعرابه الدكتور حسن الترابي عن السلطة في عملية «كسر العظم» الشهيرة بقرارات الرابع من رمضان، لكن بعد إعلان حزب المؤتمر الوطني تأكيد رغبته في الحوار والمشاركة في الحكم في هذه المرحلة التاريخية من عمر البلاد، فإن مراجعات كثيرة قد تتطلب من المؤتمر الوطني أن يغير من تحالفاته السياسية الداخلية من أجل الاستمرار في السلطة واكتساب مزيد من الشرعية، مما قد يدفعه للجوء إلى خيارات جديدة ليس من بينها ما سمي ب «أحزاب الفكة» التي أرهقت كاهل الدولة اقتصاديا، وفي ما يبدو فإن حزب الأمة برئاسة الصادق المهدي هو أكثر الأحزاب اقترابا من المؤتمر الوطني، في ظل عدم وضوح موقف غريمه الحزب الاتحادي الديموقراطي الأصل وتقاربه الأخير مع المؤتمر الشعبي وهو أكثر الأحزاب عداوة للحكومة في الوقت الحالي. ويُنتظر أن يعقد الرئيس البشير اجتماعا مع السيد الصادق قريبا حسب ما يؤكد الطرفان لحسم القضايا الخلافية التي لم تتوصل فيها اللجان المشتركة إلى حلول، ويرجح بعض المحللين أن باستطاعة الإمام الصادق أن يقدم «وصفة» جديدة حول كيفية الحكم تقوم على تحالف جديد بين حزبه والمؤتمر الوطني الذي يرأسه البشير الذي يمثل أيضا المؤسسة العسكرية مع إبعاد ما تبقى من الإسلاميين عن السلطة!! وليس جديدا الاشتباه بعلاقات السيد الصادق بالعسكريين، فقد سبق وأن اتهم زعيم حزب الأمة بالتآمر مع الرئيس الراحل جعفر نميري ضد الشيوعيين الذين ساندوا انقلاب مايو حتى انقلاب هاشم العطا في العام 1971 في سياق ثورة تصحيحية كما سماها البعض. ورغم أن الصادق المهدي ظل حليفا رئيسيا في تجمع المعارضة، إلا أن قضية علاقته بتأييد انقلاب النميري قد فجرها حليفه في التجمع فاروق أبو عيسى في ندوة شهيرة بمركز الدراسات السودانية قبل سنوات، وقد استطاع المحلل والصحافي البارع خالد التجاني الحصول على وثيقة تاريخية أثارت ضجة واسعة في بركة أسرار السياسة السودانية، وقيل إن الوثيقة كتبها الصادق المهدي عن وقائع اجتماعه بالنميري بعد أسبوع من انقلاب 25 مايو 1969م، وملخص الوثيقة يشير إلى أن المهدي قد أعرب عن سعادته بزوال النظام السابق وعلمه بحركة «الضباط» وأكد أنه لم يشأ القيام بعمل مضاد «لأننا نرحب بالإصلاح الثوري ونعارض التسلط». وعقب نشر الوثيقة قابلت الإمام الصادق وسألته عن صحتها، وقد وافق على الوقائع التي حوتها الوثيقة التاريخية، بيد أن المهدي نفى أن تكون الوثيقة كتبت من جانبه، وقال: «الوثيقة ليست محضرا مشتركا، ولكنها من طرف واحد وليس من جانبي». وقال إن «الوثيقة عززت موقفي من الانقلابات العسكرية وأكدت أنه ليست لدينا حركات في الجيش تسعى للقيام بانقلابات عسكرية»، وقال المهدي إنه اجتمع بالرئيس النميري لمنحه برنامجا بديلا، بيد أن المهدي لم يتحدث عن برنامج يقوم على الحكم العسكري وإنما قال: «أبلغت النميري بضرورة أن يتغير الوضع إلى برنامج بديل يتم بموجبه استرداد الديمقراطية»، وأضاف: «ما فعلته مع النميري هو نفسه ما فعلته مع انقلاب البشير الرئيس».