الدرس الوحيد الذي تحاول الأزمات الإنسانية والتأريخية والجغرافية بل وحتى السياسية أن تعلمنا إياه، هو أنه عندما تمر بنا يجب أن تكون وصفات معالجتها متضمنة (التربية الوطنية) كعلاج تصحيحي فعَّال يحول دون الوقوع فيها مرة أخرى. وهو آخر ما توصلت إليه وزارة التربية والتعليم بولاية الخرطوم عقب الأزمة الأخيرة بولاية النيل الأزرق، أن يخصص طابور صباح يوم الاثنين الماضي بكافة مدارس الولاية مرحلتي الأساس والثانوي، للتربية الوطنية والوقوف مع القوات المسلحة (مصنع الرجال)، وإعانة أبناء النيل الأزرق مادياً ومعنوياً - بعض المدارس وجهت بتحديد رغيفة لكل طالب للمساهمة في الدعم الغذائي - وذلك لنشر قيم ومفاهيم التربية الوطنية في التلاحم والترابط والالتفاف حول الوطن للإسهام في دفع عجلة الأداء والتطور والعمران! العمران الهندسي ببنياته التحتية موجود ومشيد على بروج من الفساد والثراء والرزق والانفتاح إلخ.. لكن العمران الإنساني متردٍّ ومتدنٍ إلى أبعد حدود، تراه ماثلاً في حكايات زمان المسيطرة على اللسان الإعلامي قبل الشفاهي مبيناً كيف الناس والحياة والبلد زمان كانت.. وكيف الآن صارت! فما تم من تطور عمراني جعل المساحات الكبيرة مجمعات سكنية والمساحات الصغيرة شققاً سكنية والميادين صالات أفراح ومؤتمرات. وما تمّ من انفتاح اقتصادي جعل الدكان، سوبر ماركت، والسوبر ماركت، مول.! وزاد من قيمة الاستهلاك مقابل الإنتاج. لم يزايد على أرباح الإنسان السوداني بقدر ما ضاعف من ثروات الأثرياء، وفقر المستورين، وسحق الفقراء. أما الانغلاق السياسي والاجتماعي على فئات بعينها تحكمها القبيلة أو المعرفة أو الولاء، جعل الحكم تسيطر عليه وجوه وسلالات لا تموت، وأفكار تطفو على سطح المصلحة الذاتية ولا تغوص إلى أعماق المصالح الوطنية. كل هذا وغيره، أسهم في تعزيز الكراهية والغبن والأحقاد الطبقية. وقعت على كتف الوطن (القيمة والمكان) بدءاً من لعنه صباحاً ومساءً، وانتهاءً بحربه وتخريبه وتبديده.! ويبدو أن أمر التربية الوطنية ذات الطابور! بدأت الملاحظة له مؤخراً جداً حيث عملت سياسات التعليم منذ قدوم الإنقاذ وحتى الآن على حشو عقول الطلاب بما توده من علوم عسكرية وحسية وحاسبية كي تضمن روبوتات تدين لها بالولاء بلا تفكير. ومقابل ذاك تمّ إلغاء كافة المواد والمقررات التي كانت تنشط خلايا الإبداع والتفكير الذاتي وتدعم قيم الولاء للإنسان والمكان، البيت والمدرسة والشارع، والوطن بتسلسل منطقي وطبيعي جداً، فمن لا يدين بالولاء لبيته الصغير وناسه لن يحفل بخراب وموت الشعب والوطن الكبير! إن كبر حجم الأزمة التي تستشري منذ سنوات طويلة جداً، سببها الأساس أننا نعاني من نقص حاد في التربية، كانت وطنية حالياً أخلاقية! فالجرعة الصغيرة الموزعة كانت بين ثنايا مقررات الجغرافيا والتاريخ والتربية البدنية والرسم والاقتصاد المنزلي، كانت إلى حدٍ ما، تؤسس لاحقاً لعقل منفتح على تقبل الرأي الآخر بشيء من المرونة. وعلى رفض التغرب وإن أجبر عليه فإنه يصنع إنساناً ملتزماً بثقافته الوطنية وسفيراً فوق العادة وشاعراً يثير لواعج النفس غير المغتربة! وبالمقابل فإن جرعات التحول الوطني في الفكرة الأساسية للوطن بالولاء للحزب والتنظيم والقبيلة، جعل العقول منغلقة على آرائها بلا قبول للآخر. وجعل الشباب يتمركز أمام شاشات الحاسوب يقدم حسابه الشخصي لوجوه لا يعرفها ومجموعات تلعن ذات الوطن أو يقدّم (لوتريه) خروجاً بلا عودة! عودة الإيمان بالتربية الوطنية عبر طابور لدقائق، لاستيعاب أزمة النيل الأزرق - للغرابة أنها أقل من أزمة جنوب كردفان بكثير لكن الاهتمام بها أعلى! - هو إيمان مفيد إذا استمر كمقررات وحصص، فسيقلل من لعنة أننا كشعب قليل التربية.. الوطنية، والحكومية أيضاً!