مساء أمس الأول تجلت دار حزب الأمة القومي بأم درمان كمسرح يتحفز لعرض شكسبيري أسندت عملية التمثيل والإخراج فيه إلى حفنة من الهواة استعيض بهم عن الغياب المباغت للمحترفين؛ محترفي السياسية السودانية وسدنتها منذ ستينيات آخر القرون المتنيِّحة. غاب رؤساء أحزاب المعارضة عن عرسهم رغم التدافع الجماهيري الكبير الذي لم يثنه عن التوقيع في دفتر الحضور الطقس الخريفي وسماء العاصمة ملبدة بالغيوم الأخيرة قبل أن تتنحى لصالح شمس بواكير الشتاء الذي يضاف إلى شتاءات كثيرة قضت نحبها والمعارضة تتوعد الحكومة (المحتاطة) أحيانا و(المسترخية) أغلب الأحايين في انتظار عودة المسيح لرد الأمانة التي تنوء عن حملها الجبال. (1) بدا الأمر عصيا على الفهم؛ أن يغيب رؤساء أحزاب المعارضة عن الليلة السياسية التي وصفت بالكبرى، وكأنهم أبرموا اتفاقاً غير معلن يمنحهم حق التولي يوم الزحف؛ عصياً رغم المؤشرات التي سبقت الندوة؛ فالأمين العام للمؤتمر الشعبي د. حسن الترابي والسكرتير العام للحزب الشيوعي محمد إبراهيم نقد غابا (الاثنين) الماضي عن اجتماع رؤساء الأحزاب الذي دعت إليه الهيئة العامة لتحالف المعارضة لاتخاذ موقف من الحرب التي اندلعت بولاية النيل الأزرق، وإن كان الثاني غاب لظروفه الصحية لإجرائه لعملية جراحية فإن الترابي عزا غيابه إلى عدم التحضير الجيد للاجتماع وقال ل (الأهرام اليوم) إنه عندما بلغ بالاجتماع أخبرهم – يقصد الأحزاب مجتمعة - بأنهم لم يستجلوا الأمر من فروعهم بالولاية ولم يعرفوا من الذي بدأ الحرب ولا عدد من قتل ولا من رحل عن الولاية ودوي المدافع يثقل عليه، نافيا أن يكون سبب غيابه لخلاف حزبه مع حزب الأمة ومشاركة نائب رئيسه فضل الله برمة ناصر في اجتماع رئيس الجمهورية عمر البشير برؤساء الأحزاب لإطلاعهم بتطورات الأوضاع بالولاية المتوثبة للقتال، مستشهدا بأن غياب الصادق المهدي ومشاركة برمة يعني أنه لا يختلف معهم كثيرا، مؤكدا بشيء من الثقة أن كل الأحزاب ضد النظام وراغبة في تغييره ولكنها مختلفة في الوسائل. (2) شروخ الغياب التي حاول الترابي ترميمها عززتها المواقف المتشاكسة من الموكب السلمي الذي أقر الاجتماع الرئاسي تسييره عقب صلاة الجمعة الماضية من مسجد السيد عبد الرحمن المهدي بأم درمان إلى منزل الزعيم إسماعيل الأزهري في إطار الجهود لوقف الاقتتال وتغليب الحل السياسي وشمول وديمومة العملية السلمية، حيث رشحت أنباء عن خلافات بين أحزاب التحالف بسبب إعلان إلغاء الموكب من طرف وحيد دون الرجوع إلى بقية الأطراف على خلفية رفض الشرطة التصديق بالموكب بحجة الحالة الأمنية بالبلاد فضلا عن خلافات سابقة بسبب رفض بعض القوى لفكرة التصديق للموكب من أساسها باعتباره حقا دستوريا لا يحتاج لممارسته إلى استئذان بل إخطار وكفى، ومن فوق كل ذلك بدا التحالف كمن غلبته (سِنَة) لسويعات فبوغت بالتصدع وكوادر حزب العدالة عند أصيل (جمعة وقف الحرب) توزع على الوسائط الإعلامية بيانا صحفيا هدد فيه بالانسحاب من التحالف وبحث الأمر في أول اجتماع لمكتبه القيادي بجانب الانسحاب من ندوة (السبت) احتجاجا على ما سماه الإقصاء المتعمد لرأيه من جهات بالتحالف لم يسمها بسبب موقفه من الحرب بجنوب كردفان قبل أن يتهم ذات الجهات بأن إدانتها للحرب ظاهرية وأنها تعمل على استمرارها ظنا منها بأنها ستسقط النظام عبرها وأضاف أن حزب العدالة لا يقبل أن يتم ذلك على حساب الأبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ، طبقا لنص البيان الذي رفض عضو الهيئة العامة للتحالف عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي صديق يوسف التعليق عليه واكتفى بالقول ل (الأهرام اليوم) إن من حق أي حزب اتخاذ الموقف الذي يراه. (3) كانت جماهير المعارضة التي تزاحمت (يمينا) و(يسارا) واجمة تترقب وصول الزعماء الذين لم يف أحد منهم بالوعد باستثناء رئيس المؤتمر السوداني إبراهيم الشيخ الذي ابتدر الندوة بحكم منصبه الرئاسي ليلهب حماس الجماهير بخطاب تعبوي زاد من حدته المسؤول السياسي للمؤتمر الشعبي كمال عمر المعروف عنه موقفه المتصلب كبقية قيادات وأعضاء حزبه من الحزب الحاكم وقياداته رفقاء الأمس معلنا ما يشي بشيء من الخلاف (المتكتم) عليه أنه لا استئذان لاحقا من الشرطة لتسيير موكب سلمي يقره الدستور لتتجاوب معه الجماهير مرددة شعارات الربيع العربي المعاصرة، فيأخذ الرجل زمام المبادرة الجماهيرية مؤكدا أن القوى السياسية (وصلت الحد) وأن إرادة الجماهير هي الفيصل في العلاقة مع النظام معتبرا تجاوب الحضور معه نتيجة لاستفتاء حقه التصديق والتنفيذ الفوري، بينما جدد نائب الأمين العام لحزب الأمة القومي عبد الرحمن الغالي تمسك حزبه بالحل السياسي القومي الشامل لحلحلة أزمات البلاد ليطفو إلى السطح مجددا الخلاف في الوسائل الذي أشار إليه الترابي في حديثه ل(الأهرام اليوم) الذي عجل بنهاية الندوة حيث أوجز كل المتحدثين باستثناء الناطق الرسمي للحزب الشيوعي يوسف حسين الذي طفف قليلا بخطاب هادئ غير تعبوي شرح فيه رؤية حزبه المعلنة سلفا أكثر من شرحه لموقف المعارضة (المتنازع عليه) في مساحة تزيد وتنقص من قضية لأخرى، مشددا على الحل السياسي لوقف الحرب، بعد أن اعتذر عن غياب نقد لظروفه الصحية. (4) قبيل انتصاف المسافة الزمنية الفاصلة بين التاسعة والعاشرة مساء كان الغالي قد ترك المنصة لمقدم الندوة ليشكر بدوره الحضور على قدومهم محاولا أن يزيح غم غياب الرؤساء عن قلوبهم المنقبضة على أمل اللقاء في لقاء آخر وهم يحدوهم الأمل في رتق الفتق الذي يحسونه في هيئة رؤساء المعارضة خصوصا أن أحدا لم يتبرع ليفسر لهم غياب المهدي والترابي، هو فتق بالضرورة انسحب على بقية أجهزة التحالف. خرجت الجماهير بعد انتهاء الندوة مبكرا على غير العادة عند الليالي السياسية وهي تستحضر تأكيدات كبار الحزب الحاكم بأن تسليمهم للأمانة حصريا على المسيح عليه السلام. خرجت ودوريات الشرطة وناقلات الجنود تطوق المكان تحسبا لأمر لم يحدث وربما لن يقدر له الحدوث قبل توافق الزعماء على مقربة من مفترق طرق.