للإجابة عن هذا السؤال ينبغي الوقوف على الموقف السياسي والأمني الذي كان سائداً بولاية النيل الأزرق قبل وقوع هذه الأحداث. لقد بدأ التوتر بالولاية بزيارة نائب رئيس الجمهورية لها من خلال اللافتات العدائية التي أعدت باستاد الدمازين مما دفع بنائب رئيس الجمهورية لقطع زيارته والعودة فوراً إلى الخرطوم ثم تفاقم الموقف مع بداية تنفيذ الإجراءات الخاصة بالمشورة الشعبية التي نصت عيها اتفاقية نيفاشا (الكارثة)، عرقلت الحركة الشعبية بالولاية الترتيبات التي كانت جارية لتنفيذ المشورة الشعبية ببعض المحليات، مما قاد لتوقف العملية بصورة نهائية وتم تأجيلها لمدة ستة أشهر ولم يرض ذلك عقار الذي كان يخطط لمنح الولاية الحكم الذاتي من خلال المشورة الشعبية وقد هدد بأنه إذا لم يتحقق له ذلك فإنه سيكون له موقف آخر وخيارات أخرى يلجأ إليها وازداد الموقف تأزماً بالولاية بعد رفض الحكومة للاتفاق الإطاري وهدد عقار بأنه إذا لم يتم تنفيذ ذلك الاتفاق فإن المنطقة ستشهد حرباً شاملة تمتد من جنوب النيل الأزرق إلى جنوب كردفان وحتى دارفور، كما هدد أيضاً بأنه سينقل الحرب إلى القصر الجمهوري، هذا بالإضافة لتصريحاته التي ساوي فيها نفسه برئيس لجمهورية!! وأصبح يمتنع عن الحضور للخرطوم عند دعوتها له في إطار عدائه السافر للسلطة المركزية وحذر من انتشار الجيش بالولاية وهدد بأنه سوف يرد على ذلك بانتشار قواته بالمنطقة. كذلك كانت لأحداث جنوب كردفان انعكاساتها على مجمل الأوضاع الداخلية بولاية النيل الأزرق. باختصار شديد ذلك هو الموقف السياسي والأمني بالولاية الذي كان سائداً قبل اندلاع أحداثها الأخيرة ولا شك أن هذا الموقف يعكس بوضوح تام حالة الاحتقان السياسي والعسكري والأمني التي كانت تعيشها الولاية التي أصبحت عبارة عن برميل بارود قابل للاشتعال في أي لحظة ولم تجد وساطة الرئيس الأثيوبي في نزع فتيله. خلال هذا الموقف المشحون والمتوتر كانت بداية الأحداث التي لم تستغرق وقتاً طويلاً، حيث تم حسمها في لحظات سريعة ولهذا فقد كانت خسائرها محدودة للغاية، حيث لم تشر التقارير الصادرة عن تلك الأحداث لوقوع خسائر كبيرة في الممتلكات أو الأرواح. لقد أشارت التقارير إلى أن الحركة الشعبية سحبت قياداتها السياسية والعسكرية وعوائلهم من الدمازين مبكراً قبل وقوع الأحداث إلى الكرمك، حيث توجد قواتهم الرئيسية. لم تشر التقارير إلى احتلال أهداف استراتيجية بالمنطقة مثل المطار أو الخزان الذي يعتبر أكبر هدف استراتيجي بالمنطقة، كما لم يتم قفل طريق الخرطوم الدمازين الذي يمثل الشريان الرئيسي لإمداد الولاية واتفقت تقارير الطرفين على أن بداية الأحداث كانت عند البوابة نسبة لعدم استجابة ثلاث عربات تابعة للحركة الشعبية لإجراءات نقطة التفتيش، حيث تم تبادل إطلاق النار بين الطرفين وبعد ذلك عم إطلاق النار كل مناطق القوات المشتركة. الهدف السياسي المعلن لحرب عقار القادمة كان هو إسقاط النظام فهل يمكن له تحقيق هذا الهدف السياسي بمثل هذا الأسلوب العشوائي؟! قال تشرشل إن الحروب ليست من السهولة بمكان بحيث يمكن تركها للجنرالات والسياسيين لتحديد كيفية انطلاقها على حسب ما يتراءى لهم ولهذا فقد أصبحت كل الحروب مقيدة نتيجة لاتساع مسارحها وكثرة احتياجاتها وخسائرها. علينا أن نتذكر هنا أن اندلاع الحرب مع تحالف الجنوب الجديد سيقودنا إلى حرب إقليمية، حيث إن هذا التحالف يقوم بحرب وكالة لصالح دولة الجنوب الوليدة والقوى الدولية التي تدعمها. ما حدث بمنطقة الدمازين يدعونا إلى إجراء تحقيق للوقوف على الأسباب الحقيقية للأحداث التي شهدتها المنطقة حتى لا تتكرر مثل هذه الأحداث مرة أخرى. إذا ربطنا هذه الأحداث بالموقف السياسي والأمني والعسكري الذي كانت تعيش فيه الولاية قبل اندلاع هذه الأحداث وقارناه بسيرها فإنه يمكن القول بأنه لم تكن هنالك خطة مدبرة واضحة المعالم لاحتلال مدينة الدمازين، كما حدث بالنسبة لاحتلال مدينة كادوقي، حيث تمكنت قوات الحركة الشعبية من احتلال بعض أجزاء المدينة وبعض الوزارات، كما استمر القتال لأيام وأسابيع داخل أحياء مدينة كادوقلي وأريافها، أما ما حدث بمدينة الزمازين فإن القيادة السياسية والعسكرية للحركة الشعبية قد قامت بسحب قيادتها السياسية والعسكرية مبكراً إلى منطقة الكرمك، كما طلبت من قواتها أيضاً الانسحاب قبل بداية الأحداث. من المعروف في العمل العسكري أن انسحاب القيادة سيؤثر على الروح المعنوية للجنود ويفقدهم إرادة القتال وربما يقودهم ذلك إلى الاستسلام للقوات المهاجمة أو اللحاق بقادتهم المنسحبين لأن انسحاب القادة يعني انهيار الموقف تماماً. في حالات الانسحاب عادة ما يحدث نوع من الفوضى والارتباك وتحت ظروف هذه الفوضى يمكن أن يحدث أي شيء نسبة لعدم وجود أي سيطرة على القوات المنسحبة وهذا ما يحدث حقيقة بمسرح العمليات. تناقلت بعض الصحف المحلية أخباراً عن اتصال عقار بشخصية قيادية ينفي فيه علاقته بالتخطيط لأحداث الدمازين، وإن صحت تلك التسريبات فإن ذلك يعني أن تطور الأحداث قد فاجأ عقار نفسه!! السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هنا: لماذا قرر عقار سحب قيادته السياسية والعسكرية وقواته إلى مدينة الكرمك للانضمام لقواته الرئيسية؟!! وما أهدافه ونواياه المستقبلية من وراء ذلك الانسحاب الغامض؟!! تجدر الإشارة هنا إلى أن عقار صرح من قبل بأنه سوف يقوم بفصل منطقة جنوب النيل الأزرق وضمها إلى إثيوبيا وانسحابه إلى الكرمك يعتبر مؤشراً قوياً لإعلان انفصال الولاية وضمها إلى أثيوبيا!! عموماً ستكشف الأيام القادمة أسباب هذا الانسحاب الغامض لأن عقار كان يهدد بأن معركته القادمة ستكون داخل القصر الجمهوري والمعروف أن الدمازين أقرب للخرطوم من الكرمك التي تقع في الحدود مع أثيوبيا!! لا شك أن هذه الأحداث ستكون لها تأثيراتها السلبية على الأمن الإقليمي خاصة مع دولة الجنوب الوليدة التي تدعم تحالف قوات الجنوب الجديد، هذا بالإضافة إلى أن علاقاتنا مع إثيوبيا ستتأثر بهذه الأحداث إذا ما احتضنت دولة إثيوبيا عقار ورحبت بفكرة انضمام ولايته لها، وربما يقود كل ذلك إلى قيام حرب إقليمية بالمنطقة. مثل هذه الأحداث تحدث باستمرار في مناطق العمليات وعادة ما يتم تجاوزها بواسطة القادة الميدانيين في ظل حالة الاحتقان السياسي والأمني والعسكري والتحرشات والتهديدات المتبادلة وانعدام الثقة والشكوك المتبادلة فإن وقوع الأحداث الفردية وارد نتيجة للضغوط النفسية التي يعيشها الجنود وتفرضها ظروف وأجواء الحرب. ليست هنالك حرب عبثية فكل الحروب التي شهدها العالم لها أهداف سياسية تسعى لتحقيقها، ولو سألنا أنفسنا ما الهدف السياسي لهذه الحرب وهل تحقق هذا الهدف السياسي؟! الإجابة باختصار شديد أنه لا يوجد هدف سياسي واضح لهذه الحرب التي انسحب قائدها قبل انطلاق نيرانها، هذا بالإضافة إلى أنه أصدر تعليمات الانسحاب لقواته قبل اندلاع المعركة وهذا أقوى دليل على عدم وجود خطة مدبرة لاحتلال مدينة الدمازين. من إيجابيات هذه الأحداث أنها قد أراحتنا من كارثة قطاع الشمال ومن ثالوثه العميل الذي كان ينعق كالبوم كل صباح ومساء. المطلوب الآن التخلي عن سياسية الجبهات المفتوحة بدون حسم في دارفور وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق وهذه فرصة مواتية لحسم جبهة جنوب النيل الأزرق وجبهة جنوب كردفان مع تثبيت جبهة دارفور حالياً، لا بد من مواصلة العمليات لتحرير الكرمك وما جاورها بخور البودي وديم منصور ومنطقة قفة وشالي ومنطقة ياردا ومنطقة مينزا، كذلك تبرز أهمية تمشيط كل المناطق التي احتلتها قوات عبدالعزيز الحلو بولاية جنوب كردفان وبعد ذلك يمكن الانتقال لحسم الموقف بمنطقة دارفور. ختاماً: لقد برهنت هذه الأحداث جاهزية ويقظة القوات المسلحة والأجهزة الأمنية واستفادتها من تجربة ما حدث بجنوب كردفان وبمزيد من اليقظة والاستعداد القتالي الجيد يمكن حسم العدو بكافة الجبهات حتى نقفل باب الحديث عن جنوب جديد بصورة جذرية وبالله التوفيق. فريق أول ركن / زمالة كلية الدفاع الوطني أكاديمية نميري العسكرية العليا