زيدان إبراهيم.. العندليب الأسمر.. هذا الكناري الذي يلون صباح مساء سموات المدينة بلحن الدهشة والشجن والعشق والأعياد. هذا الرائع.. روعة (الزول) السوداني مبدع ولد من رحم هذه الأرض البكر، رضع من ثديها روعة الغناء وأسراره.. وأطلق حنجرته في الفضاء تصرخ لحناً وتطريباً وشدواً وعطراً حتى خلناها زجاجة عطر.. ندلقها على أعطافنا وأطرافنا.. ودواخلنا وعقولنا.. وتعتقلنا فرحاً وحباً شفيفاً. بدأ الغناء صغيراً فأصبح نجماً كبيراً يعشقه الشباب من الجنسين لأنه كان يجسد أفراحهم وأحزانهم وهواجسهم، كان يطبطب المشاعر الجياشة ويدس الحنان في عيون الحيارى.. (في الليلة ديك) كانت مثل الثريات المضيئة في ليالي الشتاء.. يدمنها المعتبون.. هذه الأغنية كانت الحضن الدافئ لكثير من الشباب الذين حملوا جراحاتهم المقمرة وفتيات أحلامهم صادرتها التجارب والأحزان والنصيب.. (في الليل ديك الناس تشارك فرحتك.. حسيت بإني غريب هناك وغريبة إنتي في دنيتك.. شفت الدموع خلف الرموش.. مكبوتة بي حسرة وضياع ورعشة الكف الخضيب مقرونة بنظرة وداع جابوا القدر في سكتك).. يقول بعض المراقبين إن هذه الأبيات هي أصدق المعاني النبيلة في ترجمة الإحساس لواقع عبر على الإنسان كل أربع وعشرين ساعة. زيدان أغنياته كانت ملحاً من الإحساس الجميل والمشاعر المورقة؟ معاك قضيت عمر السنين أفرش طريقك بالورود وأبني في قصور الأماني ما حاسي بي زول بالوجود لكني ما فاقد الأمل يمكن تحن ترجع تعود زيدان رتب تفاصيل كثير من الوجدان السوداني ورسم الابتسامة وكل حرمان اليتامى. لقد مضى زيدان وبرحيله تكون روضة الغناء السوداني قد فقدت أحد بلابلها المغردة.. مضى زيدان وترك ظلالاً من الحزن الكثيف يطوف على سماء الأغنية السودانية وعشاقها لكنه رحيل المبدعين خاصة إذا كان الراحل مديد القامة مثل فقيدنا العزيز. ومع كل سوف تبقى إبداعات زيدان علامات مضيئة في عالم الإبداع الغنائي على مر السنوات باعتباره إضافة تحسب لعطاء جيلنا، فزيدان رمز من رموز هذا الجيل المبدع.. طبت حياً وميتاً أخي زيدان، عزاؤنا فيك ذلك الكم المشرق من الغناء النظيف والأصيل الذي أثريت به وجداننا وعطرت به عوالمنا وأنت تنتقل بنا عبر أدائك الجميل. أخي زيدان عذراً إن بكيت عليك دماً، فلقاؤنا الأخير بك كان لقاء أحسست بأنه الأخير برغم أنك وعدتني بأن نلتقي لإجراء حوار توثيقي مطول، وعزاؤنا أنك تسكن في وجداننا. رحمك الله أخوك عبدالباقي ٭ اسمه الحقيقي محمد إبراهيم زيدان، لقبه الأستاذ الصحفي التجاني محمد أحمد بالعندليب الأسمر.. إنسان بسيط متواضع إلى أبعد الحدود.. يحب الصداقات والعلاقات الاجتماعية ومجامل جداً وهذا رصيده في الحياة. ظلمته الأضواء كثيراً.. وقالوا إنه يعجز عن التواصل مع الآخرين كإنسان بعد أن طغت شخصية الفنان عليه كثيراً ودوماً يحاول أن يبتعد قليلاً عن زيدان الفنان حتى تظهر حقيقته للناس كإنسان. بدأ مشواره في أيام عمالقة الفن والطرب وكان من الصعب أن يجد مكاناً إلا بالإصرار والعزيمة والثقة في النفس.. استطاع أن يقف على قدميه وكان يعلم تمام العلم أن الطريق مفروش بالأشواك والحواجز التي كانت توضع أمامه منذ الصغر لكن ما بداخله كان أقوى من كل العراقيل. زيدان إبراهيم قدم بعض النماذج الغنائية لشعراء عرب يكتبون بالفصحى ونجح وأبدع في ذلك فغنى للعملاق إبراهيم ناجي (داوي ناري) وهو الذي غنت له كوكب الشرق السيدة أم كلثوم. شارك في عدة حفلات إقليمياً ودولياً بدعوة من الجالية السودانية ومثلها خير تمثيل وكتبت عن الصحف وأجرت معه الأذاعات المحلية والعالمية عدة مقابلات تناولت مسيرته الفنية. وزيدان ليس كسولاً بقدر ما يحرص على تقديم أعمال ناضجة فهو يحترم جمهوره ويقدره جداً وكان الوحيد الذي يدلي بدلوه في تقديم الجديد في ظل توقف عدد من كبار الفنانين عن العطاء. قال لي ذات مرة أحترم كثيراً من الفنانين الكبار وأكن لأستاذي الشفيع وكابلي وإبراهيم عوض ووردي معزة خاصة عندي، ويشجع الشباب من الفنانين ويقف بجانبهم إذا طلبوا ذلك. وزيدان للذين لا يعرفونه له مهارات أخرى فهو طباخ ماهر «من مجاميعه» ويجيد طبخ البلدي ويعرف كيف يكنس الأرض وتطربه أصوات الأواني التي يغسلها.. يعشق القراءة والاطلاع والرياضة، خاصة التنس الأرضي وتنس الطاولة ومارس لعبة كرة القدم وهو رياضي كبير لعب ضمن أفراد فريق الجهاد بالعباسية بأم درمان وكان يدربهم في ذلك الوقت (الحاج بهويه) ومن الذين زاملوا اللاعب الأسطورة نصرالدين عباس جكسا، كما أنه يشجع العباسية. وفاة والده وهو صغير دفعته لتحمل مسؤوليات الحياة الجسيمة بفضل تشجيع ووقوف والدته الحاجة (أم الحسين) - لها الرحمة والمغفرة- له وكذلك أساتذته في المراحل الدراسية، كلها أشياء أثرت في حياته الفنية. زيدان يؤمن بالصداقة بين الرجل والمرأة دون التفكير في أن يؤذي شعور أحد الطرفين.. يفضل الليل لسكونه وفيه يجد نفسه.. حياته كلها حب وسعادة للآخرين، يكره الحقد والحسد والنفاق والكذب ونكران أفضال الآخرين عليه ليس من سماته، والابتسامة لا تفارق محياه أبداً وعندما تجلس معه تجد نفسك مع إنسان مثقف ومدرك تماماً لدوره الفني. يذكر أنه جرب المجال العملي في بدايات حياته فقصد دواوين الحكومة لكنه في داخله رفض ذلك لأن ذاته لا تروضها الطائرات ولا المحاذير وديوانية العمل، فسمى ذلك فشلاً، حاول أن يعمل إعلامياً لكن أجنحة الإبداع تمردت على الأشكال القائمة آنذاك.. وحاول أن يصبح معلماً فعصافير الغناء في حنجرته تغلبت عليه وكأنها كانت على موعد لتعلم الطيران. ودخل زيدان أروقة الغناء فسقى ممراته بعذوبة الصوت وشجوه ووقع في خاطر الزمان والمكان لحناً لم تألفه الآذان السودانية واستطاع أن يعيد للأغنية نضارتها وبهاءها وروعتها بجميل روائعه الخالدة. هذه عزيزي القارئ لمحات من حياة المبدع الإنسان الراحل زيدان إبراهيم والتي جمعتها من خلال قراءة خفية عن حياته.