{ ينفق يوميا وقتا مقدرا يتفكر في الدموع، ما حكايتها، دون أن تسعفه معرفته الضئيلة حتى بأفكار عامة عنها، ولكن رغم ذلك هي شغله الشاغل. بدأت رحلته مع الدموع منذ طفولته حين لفت انتباهه نزولها على خديه أثناء علقة ساخنة من والدته، تحسسها بأنامله، استعان بعينيه ليتدبرها فلم يلتقط حتى لونها، تذوقها بلسانه فأظهرت حيادها، عاد إلى نفسه وقد فعلت فيها الدموع فعل السحر، هدأ روعه وهدأ روع والدته وهي ترى دموع طفلها الصغير، أحس براحة وطاقة سكنت جسده ولمعان في عينيه وإشراق، الدموع غسلت عينيه وجسده وأحزانه. بعد أيام اكتشف وظيفة أخرى للدموع، هي نفسها تنزل إثر نوبة من الضحك المتواصل دخل فيها، تحسسها وتفحصها بعينيه وتذوقها فانتهى إلى ذات الحياد في اللون والمذاق، ولكنها في الضحك تضاعف الأثر مزاجا وفرحا وحيوية، أما في البكاء فإنها تخفض الأثر. { اتصلت مسيرة الرجل بالدموع بدءا بدموع عبد الناصر أمام السفير السوري وهو يقدم أوراق اعتماده بعد انهيار الوحدة بين مصر وسوريا، وانتهاء بدموع غندور، وما بين دموع عبد الناصر ودموع غندور يرصد الرجل دموع أوباما إثر فوزه برئاسة الولاياتالمتحدة ودموع أوبرا ودموع أحمد منصور والمذيع جمال ريان على شاشة الجزيرة وعلى الهواء مباشرة ودموع رجب طيب أوردغان أثناء زيارته لجرحى فلسطينيين وقد أطلق الرجل يومها عبارته الشهيرة (إن إسرائيل ستغرق بدموع الأطفال والنساء المظلومين الذين قتلتهم) وفي الأثر عبارة منسوبة إلى سيدنا علي كرم الله وجهه (وراء كل دمعة قلب) وكذلك يعلم صديقنا أن المرأة لا تكون قوية إلا عندما تتسلح بدموعها. { يصل الرجل إلى نتائج أولية استقاها من المناهج الدراسية والقراءات المتواضعة التي أنجزها عن الدموع التي لا تخرج من أنها تحمي القرنية وترطب العين حماية لها من الجفاف وتعالج الاكتئاب ولكن ثمة شيء ما ما زال يشغل باله، هو كيمياء الدموع، من ماذا يتكون هذا الماء الساحر؟ يبحث عن معادلته العجيبة، وعن سر تلك الحركة الفيزيائية التي تدفع به قطرات إلى خارج العين فيبللها ثم يهبط إلى الخدود يرسم مسارا حزينا وأحيانا يتماسك فيسقط على الأرض فيحدث اتحاد لا يحبذه صديقنا أبدا وهو يردد دائما (حرام أن تبلل هذه الدموع غير العين والجفون والخدود) وقد أدرك سر جمال الدمع وهو يبلل خلسة العيون والخدود وأدرك كذلك المؤامرة التي يتعرض لها الدمع على الأرض، فهو مع الدموع وهي تتهاوى حتى قبيل أن تحط على الأرض فتفقد خواصها. { الدموع على شاشات السينما والتلفزيون وحتى تلك التي يتخيلها وهو يستمع لدراما إذاعية رائعة، كل ذلك يقفز إلى ذهن صديقنا مرة بعد مرة فيتذكر دموع نجيب الريحاني في فيلم (غزل بنات) ودموع عادل إمام في مقابلة تلفزيونية مع الإعلامي المصري الكبير إبراهيم حجازي (صاحبنا) ويعرج لدموع غزيرة ذرفتها البشرية في جنازات مشاهير الفن والسياسة والرياضة. { حسرة صديقنا هي في تلك الدموع التي يذرفها شعب السودان أمام شاشات القنوات التلفزيونية وهو يشاهد أعمالا درامية أجنبية، يسأل نفسه دوما كم من الدموع ذرفناها لرأفت الهجان وهو لم يكن بطلنا القومي الذي يستحق دموعنا ومشاعرنا الوطنية الجياشة، هذه الدموع وغيرها أولى بها محمد أحمد السوداني الذي له إنجازاته الوطنية الرائعة التي تتوافر فيها كل مكونات البناء الدرامي وفي الذاكرة الوطنية رابحة الكنانية وعلي عبد اللطيف وعبد الفضيل ألماظ والقائمة تطول حتى في المخابرات والشرطة والقوات المسلحة ولكن لماذا هذا الصمت!!؟؟ هل هو صمت هذه الأجهزة أم صمت كتاب الدراما أم صمت إدارات قنواتنا الفضائية أم صمت وزارة المالية أم صمت الشركات الكبرى التي لم تقدم فلسا للدراما السودانية أم صمت الموهبة أم هو صمت القبور؟