من ظن أن تكون اللغة العربية هي اللغة الأم كشرط أساسي في الإبداع الشعري السوداني، فهو مخطئ بكل المقاييس، لأن الشاعر السوداني الكبير خليل فرح الذي وُلد بقرية دبروسة بحلفا عام 1894 من أب محسي وتلقى تعليمه الأول بجزيرة صاي ، ثم انتقل إلى دنقلا لمواصلة تعليمية وبعدها التحق بكلية غردون ووصل إلى الخرطوم صبياً كانت الرطانة مؤثرة على لغته العربية، وبالرغم من ذلك استطاع أن يجيدها بالفصحى والعامية فقدم لمكتبة الغناء السوداني باقة من الأغنيات والأناشيد والأهازيج التي حارب بها المستعمر الغاشم وشكَّل بها وجدان أهل السودان حباً وعشقاً حتى غدى شعره يُعرف ب (أدب الخليل). كما كان من أوائل المثقَّفين الذين نادوا بتعليم المرأة حتى رحل عن دنيانا الفانية في 30 يونيو عام 1932م. كتب المبدع خليل فرح (أذكر بقعة أم درمان ، الشرف الباذخ ، فوق جناين الشاطئ، الشرق نورو ازدان ، بلى جسمي ، تم دورو دور، خيل الضل، رفاعة، صباحك مالو، عزة في هواك، فلق الصباح، في الضواحي وطرف المداين، ماهو عارف قدمو المفارق، ميل وأعرض، ودمدني)، وغيرها من الروائع المحفوظة طوال هذه السنوات في قلوبنا بل حتي طلاب كلية الموسيقى بجامعة السودان يُدربون في التكنيك الصوتي على الأعمال الفنية التي أتى بها الخليل لاغيره . وفي قصيدته (فوق جناين الشاطئ) التي قال رواة أغنيات الحقيبة إنه كتبها في إحدى فتيات روما وكانت تُقيم بالخرطوم، فإنه في هذا النص يؤكد ملكته الشعرية وذخيرته اللغوية العالية رغم أن النص عامي، إلا أن لغته رفيعة وسلسة وعالية التشبيب وتُخبر عن ثقافته بالعالم من حولنا في عهد كان عدد الأميين في السودان بنسبة أربعة أميين في كل خمسة أشخاص. ويؤكد النص أيضاً تأثره بشعراء النسيب من الفحول وحتي لا أحول بينكم والخليل فلنقرأ (جناين الشاطئ) معاً : فوق جناين الشاطي وبين قصور الروم حَيِّ زهرة روما و ابكي يا مغروم دُرّة سالبة عقولنا لَبَّسوها طقوم ملكة باسطة قلوبنا تبين عليها تحوم الطريق إن مرّت بالخلوق مزحوم كالهلال الهلَّ الناس عليها تهوم شوف عناقيد ديسا تقول عنب في كروم والوريد الماثل زي زجاجة روم القوام اللادن والحشا المبروم والصدير الطامح زي خليج الروم خلي جات مرنوعة الصافية كالدينار في القوام مربوعة وشوفا عالية منار موضة وآخر موضة هيفا غير زنّار روضة داخل روضة غنى فوقا كنار الجبين الهلَّ ضوّا فيه فنار مِنُّو هَلَّ الشارع مِنُّو بَقَّ ونار طالعة ما بتتقابل زي لهيب النار تحرق البِتْهابَل وللبعيد في نار