في خمسينيات القرن المنصرم شهدت (زالنجي) بالريف الغربي لإقليم دارفور صرخة ميلاده، ووسط أسرة تنتمي لأعرق بيوتات الإدارة الأهلية في دارفور كانت النشأة. انسرب هادئاً في مراحله التعليمية الأولى بزالنجي نفسها ومن ثمّ التحق بالفاشر الثانوية، قبل أن يدرك غاية أمانيه ومنتهى طموح أنداده: (الجميلة ومستحيلة). في جامعة الخرطوم منتصف السبعينيات، تشكّلت شخصية الدكتور التيجاني سيسي أتيم، وتفتّقت دلائل نبوغه بكلية الدراسات الاقتصادية والاجتماعية، ليتمّ ابتعاثه للدراسات العليا في المملكة المتحدة التي ناقش في عريق جامعاتها أطروحاته للماجستير والدكتوراة، قبل أن يعود إلى بلاده مزوّقاً معارفه الحياتية بفضيلة (شقّ الديار)، ومزيّناً اسمه بجديد الألقاب الأكاديمية. سياسياً لمع نجم الرجل إثر انضمامه إلى (حزب الأمة القومي). الأمة المصنّف كأحد أعرق الأحزاب السياسية في السودان دفع بالسيسي - وهو بعد غضّ الإهاب - ليكون حاكماً لإقليم دارفور في النصف الثاني في ثمانينيات القرن المنصرم. انقلاب الجبهة الإسلامية على السلطة الديمقراطية القائمة في 89، عجّل بوضع (نقطة) في نهاية سطر سيرته السياسية يومها، لتبدأ مسيرته مع الياقات البيضاء بالمنظمات الإقليمية والدولية موظفاً في الأممالمتحدة. بعد تشظّيات كبيرة في جسد الحركات المسلحة الدارفورية سطع نجم السيسي السياسي من جديد. تاريخ تجاني الإيجابي في إدارة إقليم دارفور كان حاضراً بقوّة، وعمله في أروقة منظمات الأممالمتحدة فضلاً عن شخصيته القومية كلّها صفات تجعل منه محوراً لتماسك أهل دارفور، لتدفع به تقاطعات الوضع في بلاده، والطاولات المنصوبة إقليمياً رئيساً لحركة التحرير والعدالة التي تضم عدداً من الفصائل الدارفورية المسلّحة والتي بدورها وقّعت على اتفاق (الدوحة) لسلام دارفور. كلوز أب { عبر اتصال هاتفي أجريناه مع أحد معاصريه في جامعة الخرطوم كلية الدراسات الاقتصادية والاجتماعية أيام الدراسة (الهادي محمد إبراهيم)، حاولنا استكناه السمات الفارقة في شخصية الدكتور التيجاني سيسي. { «كان واحداً من أميز طلاب دفعته»، هكذا ابتدرنا الهادي: «سيسي التحق بكلية الدراسات الاقتصادية والاجتماعية قسم إدارة الأعمال في عام 1974م وتخرج منها في العام 1979م»، وبحسب الهادي فإن التجاني وسط أبناء دفعته كان مرجعا أساسياً ويتمتع بفهم عالي، يقوم بشرح ومراجعة المواد الصعبة على الطلاب، وعند تخرجه أحرز معدلاً عالياً جداً. { بالعودة لإرشيف الثمانينيات نلحظ وجودا مقدّرا للرجل في الخارطة السياسية، الملاحظة جعلتنا نتساءل عن فترة وجوده بجامعة الخرطوم، وهي الفترة التي يحكي (الهادي) بصددها: «كان محدوداً، كان لا يهتم بالنشاط السياسي إلا أنه كان يواظب على حضور الفاعليات.» { وفي مضمار العلاقات الشخصية بينه وزملائه بالجامعة يقول محدّثنا: «كان واحداً من أميز الطلاب اجتماعياً، حسن زمالته كان يتجسّد في عمله دائماً على مساعدة الغير، كان يجسد شخصية الأستاذ المحب لطلّابه، ويعمل على حل مشاكل الطلاب في (البركس) التي كان يسكن فيها طلاب الجامعة في تلك الفترة».. ويمضى الهادي في شهادته حول الجانب الاجتماعي للتجاني السيسي إبان الفترة الجامعية التي عاصره فيها: «هو وصديقه ديفيد الذي تنحدر أصوله من جبال النوبة كانا محبوبين للجميع.» { (كاريزما) القيادة لدى السيسي - بحسب الهادي - كانت حاضرة بانتظار الوقت المناسب، ففي حقبته الجامعية تلك ظل على الدوام منفتحاً على جميع الطلاب، بيد أنه لم يمارس أي نشاط آخر، وانحصر جهده على الأكاديميات. { يختم الهادي شهادته حول الرجل بالقول: «التيجاني سيسي لديه قناعاته، ولديه قدرة على الصبر، ولديه همّة كبيرة جدا في تحقيق أهدافه»، وإن كان من ملمح للإشفاق على الرجل ومهامه الجديدة فإن الهادي يحصره في شبهة غياب المعلومات، فغيابه المطوّل عن البلد منذ العام 1986م ربما يؤثر على عمله، إلا أنه يستدرك: «عندما كان التجاني موظفاً بالأممالمتحدة كانت جلّ اهتماماته تصبّ في الجوانب الإنسانية وقضية دارفور.» زووم إن { القيادي بحزب الأمة القومي؛ الدكتور مهندس آدم موسى مادبو، اعتبر في مفتتح شهادته عن الرجل أن السيسي عندما كان حاكماً لإقليم دارفور كان معظم أهل الإقليم راضين عن أدائه، فضلاً عن أنه كان يعامل جميع أهل الإقليم بطريقة متساوية الأمر الذي جعله يجد قبولاً كبيراً وسط أهل دارفور، إلا أن المقادير السياسية لم تمنحه فرصة الجلوس على مقعد الحكم فترة طويلة، فبعد تنحي الدكتور عبد النبي على أحمد عن منصب حاكم إقليم دارفور تقلّد الدكتور التجاني المنصب خلفاً له لفترة لا تزيد عن (عام ونصف أو عامين). { مادبو وصف التجاني بأنه من المعتدلين في (الأمة) وأنه كان دائماً يريد أن يكون في (التيار العام)، وفي فترة وجوده بالخارج بعد مجئ الإنقاذ كان من المشاركين الأساسيين في نشاطات الحزب بالخارج، ولكنه بعد أن تولى المنصب الإداري بالأممالمتحدة ب(أديس أبابا)، وبعد أن طرح عليه الحزب مقترحاً يتمّ بموجبه تعيينه مستشاراً للرئيس في مجلس التنسيق ردّ قائلاً: (إنني لا زالت أنتمي لحزب الأمة صحيح ولكن وجودي موظفاً في الأممالمتحدة في الظروف الراهنة لا يسمح لي أن أتولى أي منصب سياسي في الحزب). فالرجل - يمضي مادبو - حسبما هو معروف عنه مبدئي تجاه عمله، إلا أنه ظلّ محافظاً على علاقاته مع الحزب الذي يعتبر من الأعضاء الأساسيين فيه. { شخصيته القومية المعروفة، والقبول الكبير الذي يحظى به من قبل أهل الإقليم ربما يكون هو السبب في اختياره رئيساً للسلطة الإقليمية لولايات دارفور - بحسب ما يرى مادبو - الذي يمضي في حديثه بالقول: «اختياره جاء نتيجة لهذه المواصفات ككل، إذا لم نغفل بالطبع دعم بعض الجهات الإقليمية والدولية ذات التأثير في هذا الإطار، وكذا خبرته في منظمات الأممالمتحدة والمنظمات الإقليمية والدولية، علاوة على الخبرة الإدارية المهمة التي تضاف إلى الخبرات السياسية». { سيسي مقبول للجميع ونرجو له التوفيق في المهمة الكبيرة التي هو بصددها، هكذا يختم مادبو شهادته قبل أن يصوّب نظر التجاني ناحية المشكلات الكبيرة التي يمكن أن تواجهه في مهمّته. { إذن.. تحديات كبيرة بانتظار الرجل، والذي سيصل الخرطوم اليوم (السبت). غير أن رصيده من المحافظة على استقلاليته وتاريخه السياسي في إدارة الإقليم، يجعلان للتفاؤل نصيباً في إدراك الغايات والمبتغى، على الرغم من المشكلات الكبيرة القابعة في انتظار وصوله، وأوّلها بالطبع مهمّة إقناع الأطراف الرافضة للتوقيع، وملف عودة النازحين إلى قراهم وتعويضهم، وهي بالطبع مهام مشتركة ينتظر أن يبذل فيها جهداً كبيراً مع الحكومة ومنظمات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية والمجتمع الدولي، بغية توفير الخدمات الأساسية لأهل دارفور.