والرئيس البشير يقلّب طاولة المصارف رأساً على عقب، ويقول بجرأة شاهقة «إن إسلاميتها لن تتحقق إن لم يكن في خزائنها وعملياتها المصرفية متسع للفقراء»، أما أن تظل هذه المواعين المالية تخدم فقط الأثرياء أهل الأسهم والضمانات، على أن يزداد الأثرياء ثراءً والفقراء فقراً، أن تكون فقط متاحة لطبقات «وطوابق» الأثرياء، فهذا ما يقدح في توجهها ومقاصدها، وما يحتاج أيضاً لبحث ونظر من قبل سدنة وفقهاء هذه المصارف الإسلامية، فالسيد الرئيس في دورة انعقاد مؤتمر ولاية الخرطوم يطرح الأسئلة الصعبة على الجهاز المصرفي الذي في ما يبدو قد فشل في توجيه عملياته الصيرفية تجاه الأسر الفقيرة والعمليات الصغيرة وصغار المنتجين، فالحكومة من جهتها وبرغم فقر خزانتها في هذا «الربيع السوداني» الذي أعقب انفصال نفط الجنوب، برغم ذلك، قد تمكنت من تجنيب ثلاثة مليارات جنيه، ما يعادل خمسة عشر بالمائة من ميزانية الدولة المالية، تجنيبها وتخصيصها للفقراء الذين يفترض أن تتدفق عليهم في شكل عمليات صغيرة، لكن في المقابل إن الجهاز المصرفي الإسلامي السوداني ظل عاجزاً عن توفير آليات تمويل وإنتاج صيغ معاملاتية ليستفيد الفقراء من هذه الأموال التي أوقفها لهم بيت مال المسلمين، ولافتاتنا الإسلامية المثبتة على أستار هذه المصارف لا يهتز لها حرف واحد، والرئيس يقول بأن واحدة من المقاصد الإسلامية العليا «أن لا يكون المال دولة بين الأغنياء»، والمال في مصارفنا الإسلامية دولة بين أهل الضمانات وحملة الأسهم وأصحاب العقارات، ودهاقنة هذه المصارف لا يشعرون بأدنى درجات جرح ما دامت عمليات الصيرفية تتدفق للأثرياء وفق رؤية الهيئات الشرعية الملحقة بهذه البنوك، فليس هنالك مشكلة في أن تستغل كل سقوفات التمويل المتاحة لأهل الدثور، فالفقراء عشمهم في دخول دورة هذه المصارف كعشم دخول إبليس إلى الجنة. فالسؤال الذي ظل مسكوتاً عنه لأكثر من عقدين من ممارسة الصيرفة الإسلامية في السودان، هو كيف يمكن لهذه التجربة المالية الإسلامية أن تنحاز للفقراء والمساكين، وألا تبقى شكلية، أطروحاتها وصوريتها هي التي تسيط على المشهد المصرفي، سيما إن ذهبت هذه «الرحلة الصيرفية» بقوة في اتجاه «دُولة المال بين الأثرياء»، علماً بأن فلسفة البنوك التقليدية «الربوية» قد رهنت مسيرتها أصلاً «لخدمة أهل المال» ممن يمتلكون مؤهلات التمويل التي على رأسها الضمانات، وكان على الصيرفة الإسلامية من أول يوم أن تذهب في عمليات تفتيت صخرة «دولة الأثرياء» التي تسد أبواب المصارف أمام جمهور الفقراء. وقد تساءلت يوماً، ولا زال التساؤل مطروحاً، لماذا كلما نهضت مسيرة في طرقات الخرطوم، وإن كانت لأجل شعب البوسنة والهيرسك، فإنها لا تنسى وهي في طريقها لمقر الأممالمتحدةبالخرطوم أن تحصب واجهات المصارف بالحجارة، ما هي أسباب هذا الغبن المختزن في صدور العامة تجاه المصارف، ربما إن الفقراء يرون أنهم يزدادون فقراً بسبب هذه المصارف التي تكرس دوماً إلى اتساع الفجوة بين طبقات المجتمع، والإجابة «الهزيمة» التي وجدتها عند كل فقهاء هذه المصارف لا تتعدى، أن المصارف ليست جمعيات خيرية، وأن هذه الودائع هي أموال لمودعين لا يمكن أن تعطى لأناس غير مؤهلين صيرفياً، والذي يحيرك أكثر أن هذه المصارف قد نهبت في فترات متفاوتة من قبل هؤلاء الميسورين أنفسهم ولم تنهب من قبل المعدمين، فالفقير لا يحتاج إلى أكثر من خمسة آلاف جنيه، وفي المقابل يذهب الأثرياء بالمليارات! قال لي يوما الدكتور مأمون حميدة، وكان وقتها هو طبيب السيد الرئيس، إن الرئيس متقدم على الآخرين في فهمه وجرأته واستيعابه للواقع، فهل كان القطاع الصيرفي يحتاج لكل هذا الوقت ليضع السيد الرئيس أمامه هذا السؤال المحور، كيف يمكن لهذه المليارات التي خصصتها الدولة لصغار المنتجين وللأسرة الفقيرة المنتجة أن تذهب لمستحقيها؟ أتصور أننا نحتاج «للموظف المبدع الخلاق» الذي لا تجعله منشورات البنك المركزي مهزوماً، ونحتاج أيضاً لصف ذهني لنجعل المصارف تخاطب أشواق الفقراء إذ لا يكفي أن ننام على بعض مكتسبات ما تحقق، دون أن نجري عمليات تطوير ومراجعة من وقت لآخر.