* خرجتُ يومها من فندق السلام روتانا بالخرطوم لأكتب مباشرة مقالاً شاهقاً تحت عنوان (السيد كرم الله عباس.. والٍ خمس نجوم)! وكان رجل القضارف القوي يومها يُطلق الرصاص في كل الاتجاهات. قال عن المصارف (إنها صناعة غربية ربوية لا يمكن أسلمتها مهما فعلنا)، وكان يشتكي لحظتها من تلك المادة الشهيرة التي تقول (يبقى بالحبس لحين السداد). وكنا يومها قد خضعنا لحبس لمدة أربع ساعات متواصلة في ذلك المؤتمر الصحافي الأشهر، حتى سدَّد السيد الوالي، أو قُل حتى تحصَّل على كل مستحقاته من قبيلة الإعلاميين. هكذا بقينا بالسلام روتانا لحين السداد.. صحيح إنه كان حبساً خمس نجوم! *وقبلها كنا نلبي دعوة للدكتور عبد الرحمن الخضر بقاعة الشهيد الزبير محمد صالح بالخرطوم، وكان الحديث عن المصارف والتمويل الأصغر) قال يومها صديقنا الأستاذ عادل الباز رئيس تحرير الزميلة الأحداث، قال(إن هذه المصارف صُمِّمت أصلاً لخدمة الأثرياء، ومهما فعلنا لن نجعلها تخدم الفقراء الذين لا يمتلكون أية ضمانات)! * في تلك الورشة قال الدكتور محمد مندورالمهدي، السياسي والقيادي المعروف ورئيس مجلس الإدارة ببنك الإدخار، وهو واحد من البنوك التي صنعت خصيصاً لخدمة (الأسر المنتجة) والتمويل الأصغر. قال الرجل يومها وبصوت جهير (لا أتصور حسب تجربتي أن «الأفندية»الذين يعملون داخل الجهاز المصرفي، يمكن أن يصنعوا أي ابتكار لاختراق «أزمة الضمانات» التي تجعلنا غير قادرين على استغلال سقوفات التمويل المتاحة» وبالمناسبة أين دكتور مندور في زحمة أحداث وأعراس هجليج)!. * قال صديقنا مصطفى أبو العزائم لأولئك (المتورشين) يجب أولاً أن نصنع (بنك أفكار) وأطروحات لينتج لنا مشروعات واختراقات. * وقال (صاحب الملاذات)، عليه من الله الرحمة والرضوان، قال لحكومة الدكتور الخضر(بإمكانكم أن تأخذوا الحصان إلى مكان الماء، ولكن ليس بإمكانكم أن تجعلوه يشرب). *والحديث هذه الأيام يدور بكثافة عن هذه المواعين المصرفية، وذلك في ظل (شُح العملات الصعبة)، ولابد هنا أن أعيد إنتاج تلك الواقعة الطريفة، قال ضابط جمارك بمطار الخرطوم يوماً لأحد الإخوة الخليجيين القادمين: (كم معك من العملات الصعبة)؟! قال الرجل مستغرباً وماذا تعني بالعملات الصعبة؟!، قال الضابط أعني العملات الدولار والاسترليني. قال(وما هو وجه الصعوبة في هذه العملات)؟! *علماً بأن تعبير (العملات الصعبة) هو ابتكار سوداني بحيث أننا ننسى في غمرة عدمنا التاريخي ومسغبتنا وفقرنا، أن هذه العملات التي تصعُب علينا في كل الحقب، هي في المقابل عند الآخرين هينة ومتيسرة. * لتعلم عزيزي القارئ، إن الذين صنعوا البنوك قد ذهبوا من أول يوم لإغداق المال على العاملين عليها، وذلك لفلسفة بسيطة لكيلا تصنع من هؤلاء الأفندية حرامية جُدد. فلا يُعقل أن تجري بين أيدي أحدهم مليارات الجنيهات وهو لا يملك ثمن ربطة عنقه! * الصيرفة الإسلامية جاءت بفلسفة (القوي الأمين) الصيرفي الفقيه. أن تعطيه بعض الاستحقاقات وكثيراً من الثقة ودروس الأخلاق،إلا أن (المال غلاَّب) وشهوته جبارة وسطوته غدارة. فالأمر بتقديري يحتاج لمقاربة بين الفلسفتين، تحسين الراتب والحوافز، وإحسان الُخلُق والمقاصد. وذلك حتى لا يتهم جوراً وبهتاناً عمال هذه المصارف بأنهم كالأوباش (إن جاعوا سرقوا وإن شبعوا زنوا). فهؤلاء المصرفيون هم أشرف وأطهر وأنقى من ذلك بكثير، وهم يعملون في ظروف بالغة الصعوبة والمخاطر تحيط بهم من كل مكان. * والأزمة ليست في سوء إدارة الأموال الصعبة، ولكن أموالنا وموازناتنا لا تغطي كل هذا الجسد المديد العليل، إن غطيت الرأس انكشفت الأرجل، وإن سترت الأرجل انكشف الرأس، لذا أزمتنا لا تُحل بتجريد هذا القطاع من بعض امتيازاته وميزاته كما ينتوي بنك السودان هذه الأيام أن يفعل. فأزمة اقتصادنا تكمن في إنتاج ..المزيد من الإنتاج.. وخلق المزيد من فرص العمل.. وتجويد الزراعة وتفعيل الصناعة . * مخرج .. قبل ستة أشهر استوعبني اتحاد المصارف فى إحدى لجانه وعلى إثر مقال باهظ (رفتوني)! ومنذ أن نزعت ربطة عنق تلك اللجنة وأصبحت حراً طليقاً ومفيداً أكثر في تناولاتي وتجاوباتي الصيرفية.. فالغريق لا يُهدد بمزيد من الغرق، فأعظم هدية يمكن أن تقدِّمها لصحافي هي ألا تجعله موظفاً يكتب بأمرك.. والله أعلم