( 1 ) حركة 17 نوفمبر 1958 التي تزعمها عبود لا يزال الجدل محتدماً حول توصيفها كيف لا والرجل نفسه لم يجد لها توصيفاً في كل معاجم اللغة غير أنها (خطوة) ومن فوق ذلك هوية الذي عبّد للعسس طريقاً في المدائن يجارون به المدنيين حذو النعل بالنعل نحو مؤسسات الحكم، وهنا يطل الأميرلاي عبدالله خليل كبيراً للسحرة أكل الكيكة واحتفظ بها في الوقت نفسه عندما (أمر) مرؤسيه بتسلم السلطة لوضع حد لأزمة يمكن القول أنها ذات طابع وطموح شخصي للرجل صاحب الرتبة الأعلى في رتب الجيش السوداني وقتها، الرجل الذي كان رئيساً للوزراء ووزيراً للدفاع عن حزب الأمة القومي، ورغماً عن انعدام الدليل المادي لتورط الرجل في تسليم السلطة لجنوده إلا أن الشواهد وقرائن الأحوال حصرت الاتهام عليه دون غيره وهو المهدد بفقدان عرشه (المدني)، طبقاً للروايتين الأكثر شيوعاً، الأولى تقول إن رئيس حزبه صديق المهدي كان بصدد الاتفاق مع الحزب الوطني الاتحادي الذي يتزعمه الراحل إسماعيل الأزهري لتشكيل حكومة ائتلافية تسند رئاستها لرافع علم الاستقلال، والثانية أن حزب الأزهري بصدد حل خلافه مع توأمه حزب الشعب الديمقراطي الذي يحظى برعاية مرشد الطريقة الختمية وقتها السيد علي الميرغني تمهيداً لتشكيل حكومة ائتلافية على أنقاض حكومة الأمة والشعب التي يرأسها الأميرلاي عبدالله خليل وهما روايتان تدوران في رحى الحدث المحتمل حد التأكيد وهو عودة الأزهري بطريق أو آخر لمنصب رئاسة الوزراء الذي فقده في يوليو 1956 كأحد تداعيات لقاء (السيدين) صاحب السمعة الأشهر بين لقاءات الساسة في القرن العشرين. ( 2 ) وما يعضد الاتهام الموجه لخليل إفادات عضو المجلس العسكري لنظام نوفمبر أحمد عبدالوهاب للجنة التحقيق التي شكلت عقب انتفاضة أكتوبر برئاسة القاضي صلاح الدين شبيكة بأن خليل هو من خطط للانقلاب وأنه حضر لمباني وزارة الدفاع يوم 16 نوفمبر وجدد تأكيد دعمه للضباط وعطفاً على ذلك إقرار عبود نفسه بأن خليل سبق وأن دعاه لمقابلة الإمام الصديق المهدي لمناقشة أوضاع البلاد وقابله بعدها مراراً لإقناعه بحوجة البلاد للإنقاذ وقوله (عبد الله كان يجري ورانا عشان تنفيذ الانقلاب) وهو ادعاء أنكره خليل مستشهداً بتصريح صحفي أدلى به قبل يوم من الانقلاب نفى فيه عزمه تنفيذ انقلاب عسكري طبقاً لما أوردته الصحيفة الأميريكة (هيراليد تربيون). ومن نافلة القول أن تبرئة خليل لساحته لا يدعمها تمسك عبود بالسلطة وعدم رد (الأمانة) لصاحبها وفقا للاتفاق غير المكتوب رغماً عن المكانة التي يحظى به عند عموم أعضاء المجلس العسكري الحاكم بل يعززها أول قراراته في ما يتصل بسياسة البلاد الخارجية وهي قبول المعونة الأمريكية التي وجدت معارضة شرسة من قطاعات واسعة من الشعب قادها حزب الأزهري في مواجهة حكومة الأميرلاي التي كانت تدعمها على استحياء علاوة على اعتقال قادة نوفمبر لكل الوزراء بينما كان رئيسهم الأولى بالاعتقال حراً طليقاً يحلق في سموات العاصمة السياسية كما البطريق، وسواء أكان الأميرالي كبيراً لمهندسي انقلاب نوفمبر أم لا فإن ذلك لا يخفف من حدة الذي كان وقد يكون. ( 3 ) فالبرغم عن الازدهار النسبي الذي شهدته البلاد في فترة حكم عبود يبقى الرجل بلسان معارضيه من نصب نفسه (مخلصاً) على رأس جيش مخلص لبلاده واعداً بالاستقرار والأمن ودحض الكراهية العالقة بالنفوس ومن ثم فرض الحل العسكري لأزمة الجنوب مصحوباً بسياسة الأسلمة والتعريب، ساقياً حد الارتواء بذرة الانفصال الأولى، مكمماً أفواه مواطنيه، والرجل الذي حل الأحزاب بحجة تجاهلها لمصلحة البلاد وقصر جهودها لمصالحها الذاتية بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة، بما فيها الاتصال بالسفارات والاستقواء بالأجنبي هو الذي قبل المعونة الأمريكية كأكبر الشروخ على جدار السيادة الوطنية ومن فوق هذا وذاك هو من دشن الدورة السياسية الخبيثة عندما علم العسكر والساسة معاً فرض الحلول بقوة السلاح فاتحاً باباً استعصى على العوام والخواص على حد سواء إغلاقه ليومهم هذا، بل صدر فكرته لعموم القارة السوداء التي كانت تدير آخر حروب المستعمرات، ناقلاً عدواه لجنرالات اغتصبوا وما زالوا يغتصبون الأرض بحجة تحريرها، فالشاهد أن السياسيين من يومها لا يتورعون في الاحتماء بجنرالات المؤسسة الأكثر انضباطاً من بين جميع مؤسسات البلاد، بما فيها أحزابهم، لحسم الفوضى الخلاقة التي هي من بنات أفكارهم لا أفكار العسس الذين قلما حاول نفر منهم بمعزل عن الساسة الاستيلاء على مفاتيح القصر الجمهوري وإغلاق أبوابه (برتاجات) عسكرية في وجه أصحاب (الياقات البيض)، فجل المحاولات الانقلابية التي أعقبت نظام عبود نفذها عسكريون منتظمون في مؤسسات سياسية مدنية وهو وزر تبرأ منه الأميرالي وتعامل معه عبود بوصفه شرفاً لا يدعيه وتهمة لا ينكرها، تهمة لا يزال الناس مختلفون حول حقيقة صاحبها إلا أنهم متفقون كما لم يتفقوا من قبل على فداحتها.