نهاية أغسطس الماضي كان أحد اللصوص يبعثر في أوراق قيادي نافذ في المؤتمر الوطني.. من ضمن الملفات التي تجاهلها (اللص) ورقة معايير اختيار الوزراء الجدد، والتي اعتمدت من قبل المكتب القيادي للمؤتمر الوطني.. نسخ الورقة استدعت في ذاكرة المراقبين تفاصيل السنوات الأولى من طفولة الإنقاذ.. ففي تلك الفترة كانت سطوة (شيخ حسن) هي المتحكمة في كل شيء، بحيث يلعب قلمه الأحمر دور البطولة في مسألة الشطب والتعديل، يتخير من يراه مناسباً ويسبغ عليه ألقاب (القوي الأمين).. سلطتئذٍ لم تتراخ القبضة في أيدي الخصوم لأن شروط المرحلة كانت تفضل (الولاء) على (الكفاءة)، والغرض من كل ذلك هو التمكين بالطبع، ولكن الجماهير الحالمة في طول البلاد وعرضها ظلت توّاقة دوماً لمن ينتمي لها بالأصالة ويمثلها بعيداً عن مطامع الساسة وخدمة الأجندة الحزبية. (1) صورة الوزراء الجدد صباح السبت الماضي وهم يؤدون القسم أمام رئيس الجمهورية من وراء شاشات الحاسوب ويبتسمون قبالة كاميرات التلفزة كانت من اللحظات التي ترقبها الرأي العام منذ ما يراوح الخمسة أشهر، بيد أنه تعامل مع المسألة لاحقاً ببرود رهيب.. ممنياً نفسه في الانتظار ببعض التغيير كانت تزحم مخيلته إكليشيهات (كلّ تأخيرة وفيها خيرة).. لعلّه الآن يلتمس العزاء والسلوى في أشعار حميد (حيكومات تجي وحيكومات تغور).. بعد أن استوت الطبخة طبقاً لوصفة (المؤتمر الوطني) ومقاديره..!! على تخوم مطبخ القرار أشرعنا الاستفهام في وجه المراقبين، عسانا نرتق ما انفتق في ذهن المواطن؛ كيف تتم عمليات الاختيار؟! المعايير الثابتة في دول العالم الأول للتوزير كيف تكون؟ وهل أظلنا فعلاً زمان يكون فيه الاختيار للمنصب قائماً على معايير الولاء والقربي والقبيلة؟! (2) من أهم المعايير في أعراف الدول المتقدمة لاختيار الوزراء عنصر الكفاء، والوطنية بمعنى الانتماء للوطن دون الانحياز لفئة ضد أخرى، وأن يكون الوزير متمرساً في العمل العام وله رصيد سياسي مشهود وعلى استعداد للتضحية دون انتظاره لعائد، فضلاً على ذلك أن يكون ذا حس سياسي، وأن يتمتع بقدر عال من المهارات الاجتماعية وأساليب التعامل مع الآخرين، وأن يتمتع بخصال الشخصية السوية، فلا هو قلق ولا هو مكتئب ولا عصبي، وقادر على اتخاذ القرارات الحاسمة في الأوقات التي تتطلب ذلك، وأن لا يكون محسوباً على تيار سياسي حتى لا يجور على حقوق الآخرين انطلاقاً من انتمائه الحزبي، وأن يكون واسع الثقافة والاطلاع وأن يكون مرناً بعيداً كل البعد عن التصلب والبيروقراطية والجمود الوظيفي وأن يكون قوي الشخصية، ويتمتع بالمثابرة والصبر والحلم والوقار والهيبة حتى يكون قائداً ناجحاً ولديه القدرة على التواصل الجيد مع الآخرين وملماً بوسائط الاتصال الحديثة ويجيد أكثر من لغة.. يتضح من هذه المعايير المعتمدة في دول العالم الأول عدم اصطحاب مبدأ التجريب والخطأ، فالأخير ربما يكلفك الموقع في حد ذاته. (3) رئيس تحرير صحيفة (التيار)؛ الأستاذ عثمان ميرغني، يسجل نقاطاً في شباك المؤتمر الوطني، ويجرد الوزراء الجدد من لبوس وزراء العالم الأول، ويعتبر ميرغني في إفادة ل(الأهرام اليوم)، أن أهم تلك المعايير التي شكلت على أساسها هذه الحكومة، الانتماء الحزبي والجهوي والتوافق على تنفيذ برنامج الحزب الحاكم، أما الكفاءة فقد استبعدها. وأضاف رئيس تحرير (التيار) أن الملاحظ في هذه التشكيلة أن الحزب يريد أن يلعب بطريقة (4-2-4)؛ بمعنى أن تكون هنالك شخصيات ثابتة في الملعب لا تتغير لأي سبب كان وآخرون يتم تحريكهم من خانة إلى أخرى، مستطرداً بالقول أن تأثير الوجوه الجديدة سيكون معدوماً، خصوصاً وأن السلطة محتكرة لدائرة ضيقة، فعمل الحكومة سيعتمد على (اللعيبة) الأساسيين، فبعض الوزراء سيكونون في الواجهة ولكن العنصر الفاعل متمركز في موقعه. وبغض النظر عن مدى التأثير يطالب ميرغني بتحديد الوصف الوظيفي للوزراء حتى لا تتقاطع مهامهم مع آخرين، فالوزير هو الواجهة السياسية السيادية للوزارة ولا يتخذ القرارات بمفرده، بينما الوكيل هو الشخص الفاعل في المعادلة. وتوقع عثمان ميرغني ردود أفعال عكسية لأداء الوزراء بعد خيبة الأمل والإحباط الذي ضرب الشعور الوطني، رافضاً تحديد شكل الأداء للتشكيلة، ومفضلاً الحكم على الأداء السابق للوزراء، وعلق بالقول بأن الوزراء لا يمكن أن يتمردوا على خبراتهم السابقة والتي نعرفها وتسببت في كل هذا الفشل. (5) في سياق متصل، يلخص مرشح الرئاسة الأسبق محمود جحا حزمة آراء فيما يتعلق بالمعايير. ويمضى في مقاربات مع عهد الإسلام المبكر وكيفية اختيار وزراء الدولة الإسلامية في فترة الخلافة الراشدة. جحا اسبتعد على الإطلاق الالتزام بتلك المعايير التي كفلها التاريخ، جازماً بأن المعلومات غير متوفرة ولكن مسألة المحاصصة بعيداً عن التدقيق في شروط الوزير كانت هي الغالبة في الترشيح، بالإضافة لمعايير الحد الأدنى من الكفاءة والحد الأدنى للتأهيل وهي أشياء ربما تم استصحابها. جحا في معادلة السلطة والنفوذ يستشعر صورة مغايرة لما يتراءى للبعض في شكل الاجتماعات الدورية لمجلس الوزراء، معتبراً أن النظام الرئاسي في غالب دول العالم الثالث لا يساعد في مسألة توافر الشروط المطلوبة في الوزراء لأن قرار الرئيس هو النافذ، مما يتوجب في الحالة السودانية وغيرها دمج النظام الرئاسي والبرلماني والخروج بمنصب رئيس وزراء على الأقل. جحا أيضاً يقارب بين هذه المرحلة ومرحلة النبوة الأولى ويقول إن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان يعيّن العمال بشروط متعارف عليها. وطالب جحا في الوقت نفسه بالاستفادة من التجربة الإنسانية والاستفادة من التشريعات الإسلامية عموماً، مفضلاً مسألة التخصصية في بعض الوزارات الحية، مثل وزارة الصحة والتي هي بلا شك تحتاج إلى طبيب واعٍ وملم بأسرار العمل، كما أن وزارة النفط أو الصناعة في حاجة إلى مهندس شاطر ويتمتع بالكفاءة والخبرة المطلوبة، واستدعى جحا نماذج من الفترة المايوية مثل تعيين الرائد أبو القاسم وزيراً للصحة أو تعيينات بداية ثورة الإنقاذ، وعلق بأن الوزارء عندنا مثل بيادق الشطرنج يتم توجيههم أحياناً بشكل غير مدروس. ويخلص جحا إلى أن الحزب الحاكم في السودان لا يأبه بالوزير أو المسؤول، رجلاً كان أو امرأة، مهندساً أو طبيباً، المهم أن يترجم السياسة المتنزلة وهذا خطأ منهجي. (6) الصورة لم تكتمل، فالإطار الذي يحكمها غير ثابت، ولكن تظل معايير اختيار الوزراء واحدة من التحديات التي تشوب مظهر السلطة التنفيذية، فالكثيرون أيضاً استبشروا خيراً قبيل أيام بعمق المسعى السياسي المسنود برصيد عشرين عاماً في السلطة، في كيفية صناعة حكومة استثنائية ومتميزة..، ولكن فداحة الانتظار ربما عمقت الإحساس بأن الطريق ممهد فقط للخواص، وكان الإحباط سيد الموقف، خصوصاً وأن خارطة الطريق داخل ردهات الحزب الحاكم تعزز فكرة (اجعلوني وزيراً)، بالرغم من أن المبدأ الإسلامي المقترن بهذا المطلب: (إنا لا نولي هذا من سأله ولا من حرص عليه).