والحكومة تتباهى بأن صادر الذهب السوداني في الأعوام الأخيرة يحتل عائده موقع الصدارة متفوقاً على كافة صادراتنا الأخرى. صحيح كانت هناك تجربة شركة أرياب المنتجة للذهب في جبال البحر الأحمر، وظل صادرها محفوفاً بكثير من الجدل، ولكن البطل الحقيقي الذي ارتفع بعائد هذا المعدن النفيس هم أناس بسطاء ضاق بهم شظف المعاش فإذا بهم يحملون أرواحهم في أكفهم، فغامروا باقتحام المجهول في فيافي لا أنس فيها ولا جن، ينقِّبون عن هذه الثروة وسط ظروف قاسية، وكثيراً ما يتناهى إلى أسماعنا من فواجع بالغة الإيلام تتمثل في انهيار المنجم على رؤوسهم حين يلفظون أنفاسهم تحت التراب الذي يدفنهم دفناً أمام أعين رفقائهم، ويدفن معهم كل ما كان يداعبهم من أحلام. هؤلاء الناس البسطاء لم يكن درسوا علم الجيولوجيا في جامعة ولم يكن قرأوا كتيباً أصدره الإنجليز إبان استعمارهم للسودان وعنوانه: الخارطة الجيولوجية للسودان، وإن كان هذا القلم يعرض على مدى أعوام طوال في كتاباته الصحافية محتويات ذلك الكتيب. ولكن هؤلاء الناس البسطاء، بفطرتهم وبتراكم حكايات كان يرويها لهم سلفهم، استطاعوا أن يستلهموا فكرة تنقيب الذهب في مناطقهم، فاقدموا عملياً على تنفيذ الفكرة، ونجحت التجربة، وحصدوا ما حصدوا من ثمرات بذلهم وإن كان لذلك ثمنه من ضحايا أنفس بشرية، مع ملاحظة أن مواقع عمليات التنقيب الشعبي قد فتحت أبواب الرزق أمام باعة الطعام والشاي من نساء ورجال كانت سُبل المعاش أمامهم أضيق من سَمْ الِخياط. وهكذا أثارت تجربة الُمنقِّبين انتباه الحكومة نحو مواقع هذا المعدن وهو أمر لم يكن يخطر ببال كافة الحكومات التي تعاقبت على دست الحكم منذ أن خفق علم السودان المستقبل على ساريته. الدرس الأول المستفاد من هذه التجربة هو أن عبقرية الشعب السوداني في اكتشاف المجهول بإرادة مقتدرة هي حقيقة لا يأتيها الشك لا من خلفها ولا من بين يديها. والدرس الثاني هو: أن الصراعات السياسية، ضيِّقة الأفق بالغة الأنانية هي على رأس الأسباب التي تعرقل مسيرة الوطن على طريق التغيير وبناء الأمة والوطن. أما الدرس الثالث فهو: أنه لم يكن من الحكمة في شيء تجاهل ما يمتع به الشعب من وعي قائم على الفطرة السليمة والإرادة الكامنة في أعماقه، وبتفجيرها في سبيل مصلحة عامة تطوِّع المستحيل وتصنع المعجزات وتبدد دياجير الظلمات. والواجب يقتضي من كافة القوى السياسية أن تعترف بهذه الحقيقة ولا تغيبها والاقتداء بها، و الإفادة منها في رسم السياسات البناءة على كافة الأصعدة: وعلى رأسها السياسات الاقتصادية والاجتماعية والفكرية. قبل سنوات طوال شاهدت فيلماً صامتاً للمؤلف والممثل العبقري شارلي شابلن عنوانه هو: البحث عن الذهب. فما أروع هذا الفنان العبقري في هيئته الشهيرة بقبعته، وملابسه المتواضعة، وحذائه الطويل، وعصاه التي لا تفارق يده، وهو يخوض في عزيمة وإصرار معركته في البحث عن الذهب ضارباً في قلب صمت الصحراء الموحشة وجليدها وعواصفها وأنوائها. وقد أوحت لي مشاهد ذلك الفيلم الصامت وحركات وأشارات شابلن وهي تتجلى أبلغ من كل كلام، أن أتمنى من أعماق قلبي، مشاهدة فيلم سوداني على شاشة تلفزيون السودان يتناول معركة التنقيب عن الذهب على أيدي هؤلاء الناس البسطاء يقوم بإعداده على الطبيعة مبدعون سودانيون، لا يخالجني أدنى شك في قدرتهم على ذلك، وهم كُثْر مبلغ علمي، تسجيلاً لذلك الحدث التاريخي الكبير، وكذلك على سبيل التحية والتكريم لأبطاله الأحياء منهم والشهداء. وفي هذه المناسبة تنبثق في ذاكرتي كلمات من قصيرة لشاعر روسي صاغها إبان طغيان العهد القيصري وهي تقول: كم أنت غنية يا روسيا وكم أنت فقيرة يا روسيا. وإذا بي أردد: كم أنت غني يا سودان وكم أنت فقير يا سودان. باختصار: لماذا استيراد «400» بص لولاية الخرطوم بالعملات الحرة التي تعترف الحكومة الآن بشحها بعد انفصال الجنوب؟ يقال لفك أزمة المواصلات! ولكن الواقع يقول إن المركبات العامة والخاصة تكاد تظهر كل شبر من أرض الولاية. أما الأزمة الحقيقية التي تحتاج إلى حل إنما تتمثل في تصاعد سبيل الهجرة المتدفق - بلا انقطاع- صوب عاصمة ليست إنتاجية بالمعنى ولكن من أين؟ من ولايات هي مناط أمله الكبير في أن تصبح سلة طعام لنا ولغيرنا، وأكبر مصدر للدخل القومي وتوفير التمويل الوطني الذي يحرر اقتصادنا من أغلال التبعية. وهناك أيضاً سيل الوافدين من دول أجنبية بلا ضابط حقيقي. فهل تأخذ هذه القضية الخطيرة مكانها في جدول أعمال الحكومة في تشكيلها الأخير؟!