معتصم اقرع: لو لم يوجد كيزان لاخترعوهم    الصين تفرض حياة تقشف على الموظفين العموميين    (المريخاب تقتلهم الشللية والتنافر والتتطاحن!!؟؟    محمد وداعة: الجنجويدي التشادى .. الأمين الدودو خاطري    وكالة الفضاء الأوروبية تنشر صورا مذهلة ل "عناكب المريخ" – شاهد    شركة توزيع الكهرباء تعتذر عن القطوعات وتناشد بالترشيد    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    بايدن يعين"ليز جراندي" مبعوثة للشؤون الإنسانية في الشرق الأوسط    مصادر: البرهان قد يزور مصر قريباً    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    إقصاء الزعيم!    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    الجيش يقصف مواقع الدعم في جبرة واللاجئين تدعو إلى وضع حد فوري لأعمال العنف العبثية    الحلم الذي لم يكتمل مع الزعيم؟!    أحلام تدعو بالشفاء العاجل لخادم الحرمين الشريفين    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    السودان..رصد 3″ طائرات درون" في مروي    في أول تقسيمة رئيسية للمريخ..الأصفر يكسب الأحمر برعاية وتألق لافت لنجوم الشباب    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    عن ظاهرة الترامبية    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشاعرة الروسية مارينا تسفيتيفا سيرة الحياة والشعر
نشر في الراكوبة يوم 19 - 09 - 2012


بمناسبة مرور 120 عاما على ولادتها
نضال القاسم
في عام 1892 ولدت الشاعرة والكاتبة المسرحية والناقدة والمترجمة الروسية ( مارينا تسفيتيفا) في موسكو، وهي واحدة من أعظم الشاعرات الروسيّات في القرن العشرين، عاشت كما كتبت عن نفسها ذات يوم ' كما يحب الله ولا يحب الأصدقاء'.
وأنهت حياتها منتحرة في قرية روسية صغيرة عام 1941 وأما حياتها ونشأتها فقد نشأت في بيئة ثقافية فكرية متميزة، فقد كان والدها عالم لغة كلاسيكي متخصص باللغات وعلم الجمال، وكان من المثقفين ذوي المكانة، وعمل أستاذاً بجامعة موسكو وأسّس أحد أهم متاحف المدينة، متحف روميانتسيف للفنون الجميلة ، الذي صار اسمه فيما بعد متحف بوشكين ، وقد كتبت مارينا عنه كتاب ' أبي والمتحف ' ، أهدته له ، أما أمها فهي بنت إحدى النبيلات البولونيات ، وهي عازفة بيانو قديرة كانت تحلم بأن تصبح ابنتها موسيقية، وقد أصيبت أمها بالسل عندما كانت مارينا بالعاشرة من عمرها وأختها في الثامنة ، وبناءً على وصية أطبائها قامت الأم في عام 1902 بإخراج مارينا وشقيقتها من المدرسة وسافرت إلى إيطاليا بحثاً عن العلاج،فعاشت الأسرة ثلاث سنوات خارج روسيا ، انتقلت أولاً الى جنوا وخلال ذلك درست مارينا وأختها في مدرسة داخلية في لوزان ، بعد عودة ابيهما الى روسيا ، ثم انتقلت مع أمها وأختها الى الغابة السوداء وأمضين الصيف مع الأب ، وفي الشتاء درست مارينا وأختها في مدرسة داخلية في فرايبورغ، ثم عادت الأسرة بعد ذلك إلى روسيا في 1905، حيث توفيت الأم بعد عام من ذلك التاريخ.
لقد التحقت مارينا بمدارس في كل من روسيا وباريس، حيث بدأت بكتابة الشعر والترجمة من الفرنسية، ونشرت ديوانا بعنوان 'ألبوم المساء' في سنة 1910 والذي لقي ترحيباً حاراً، وعلى الرغم مما تميزت به قصائدها من رومانسية وميل إلى العاطفة على نحو متوقع منها كفتاة مراهقة، إلا أنها حسبما قيل عنها أدخلت إلى الشعر الروسي نوعا جديداً وجريئا من الحميمية.
تعرفت مارينا ب ( سيريوجا ايفرون ) في المدرسة الصيفية سنة 1911 وتزوجته سنة 1912 ، وهو شاب من روسيا البيضاء من إحدى العائلات الروسية الشهيرة في مجال العمل السياسي الراديكالي، وكان يصغرها في السن بعام واحد ، وفي ذلك العام صدر ديوانها الثاني 'المصباح السحري' ورزقت بابنتها، اريادنا، وكانت النقود المرسلة إليها من العائلة قد أسهمت في إنعاش حالة الزوجين المادية فاشتريا منزلاً في موسكو، وأمضيا إجازاتهما في على ساحل القرم، غير أن زواجهما لم يكن موفقاً على الرغم من ذلك، وفي تلك الأثناء ارتبطت تسفيتيفا بعلاقات عاطفية مع الشاعرين صوفيا بارنوك وأوسيب ماندلستام. ومن رسائل الشاعرة الى روزانوف نعرف كيف رأت زوجها في تلك الأيام : ( عمره عشرون سنة ، فاتن الجمال شكلاً وروحاً، موهوب ، ذكي ، أحبه جداً والى أبد الدهر )، ولكن الحقيقة التي أثبتتها الأيام كانت مختلفة حيث أن مارينا دفعت ثمن هذا الوهم، وتبين أن أباها كان أبعد نظراً منها ، وهي تعترف بأن حبها عذّب أباها ، ويقول بعض الدارسين إنه كان فجيعة أبيها ، وفي إبريل 1917 أنجبت ابنتها الثانية،( آيرينا )، ومن جانبه أراد ( إيفرون ) أن ينقذ نفسه من المأزق العائلي المرتبك، فتطوع في القوات الملكية، وفي عام 1917 أيضاً وجدت تسفيتيفا نفسها وحيدة، شبه معدمة من دون أن يكون هناك ما يفي بحاجتها المعيشية مع ابنتيها الصغيرتين،حيث كانت تعيش على المساعدات التي كان يقدمها جيرانها الطيبون، وعلى بيع مقتنياتها الشخصية، وهنا وصف لحياتها البائسة في موسكو كما جاء في مجموعتها النثرية ' إيماءات دنيوية ' :
أنهض.. النافذة العليا رمادية بالكاد
البرد .. البرك الصغيرة
المنشار ..الغبار
الدلاء ..الأباريق
الخرق .. ملابس الأطفال وقمصانهم مبعثرة في كل مكان
أقطع الخشب.. أشعل النار بالماء البارد كالثلج
أغسل حبات البطاطا، التي أغليها في السماور
وتضيف في المجموعة ذاتها مشيرة الى فقرها والى أنها لا تملك إلا ثوباً واحداً قائلة :
إنني أحيا ليل نهار بثوب واحد بني من الفلانيل
منكمش إلى حد مرعب
تمت خياطته في الكساندروف في ربيع 1917 عندما لم أكن هناك،
ثوب مليء كله بالثقوب الناجمة عن تساقط رماد الفحم والسجائر المشتعلة
أكمامه التي كانت ذات يوم ملمومة بشريط مطاطي،
صارت مطوية إلى الأعلى ومثبتة بدبوس
وعندما ننظر للشعر الروسي في الثلث الأول من القرن الماضي ، فمن البديهي أن تكون أسماءً منها أوسيب ماندلستام، وأنا أخماتوفا، وبوريس باسترناك ، فلاديسلاف خادا سييفتش ، ألكسندر بلوك هي الأسماء المألوفة، وليس مارينا تسفيتيفا، مع أنها قد شغلت مع الشاعرة آنا أخماتوفا المكان الأبرز بين شعر النساء،ولكن بالنظر إلى صعوبة ترجمة أعمالها فإن هذه الأعمال قد أصبحت غير معروفة تقريباً بالنسبة للآخرين، وحتى في حال ترجمتها فإنها لا تترك انطباعاً قوياً لدى القارئ، وتبدو أنا تسفيتيفا غريبة ومستعصية على الفهم من خلال عباراتها الموجزة ولغتها المجازية المتشابكة على نحو غير عادي، ويتميز شعرها بقوة الكلمات والقدرة العالية على التعبير ، وإمكانياته الاستثنائية على نحت الكلمات وإكسابها معنىً جديداً كان يفتقد إليه كبار الشعراء في زمانها،ويقول الشاعر الأمريكي ( سي .كي. وليامس ) : (حقيقة أن شعرها يصعب ترجمته لنه مليء بالتلاعب بالكلمات . فهناك شعراء لا يجتازون حواجز اللغة وهي واحدة منهم ولكنها كاتبة مقالة موهوبة وتستطيع أن تلاحظ تألقها أكثر في المقالة)، وكما ترى د. ناديا خوست ( بعد عقود من موتها استطاعت عدالة النقد أن تكتشفها شاعرة مبدعة ، وناثرة متقدمة . معاصرة ، حتى في أيامنا ، بجملتها المتوترة المقتضبة المركزة، وبنائها الفني الفريد )،ولا شك أن العمل والتأمل قد أسهما بشكل كبير في إنضاجها كشاعرة مبدعة، وتكشف رسائلها الى باسترناك عن عبقريتها وأسلوبها المميز في النثر الذي تميز بخصوصية في التقطيع وعن روحها المثقفة الرقيقة والمتمردة ، وهي بلا شك مفكرة ذكية مثقفة وكاتبة خبيرة في عملها وإنسانة تواقة للصداقة والتفاهم الذي لم تكن تجده حولها ، ومما زاد من غربتها ومرارتها أنها كانت كاتبة في بلد غريب وكانت تحتاج النشر بلغتها في صحف ومجلات مغتربة ومصيبتها الأخرى كانت بأنها كانت محتاجة لتكريس نفسها لأن تعمل وتحمل بيتها وولديها على كتفهامما أسهم في سقوط أحلامها .
أما تجربتها الشعرية والإبداعية ، فهي كما ذكرنا ليست شاعرة فقط وإنما مترجمة وكاتبة مسرحية وناقدة،بالاضافة الى مئات القصائد ، ولقد تميزت كتاباتها ببعض الصفات ، وعلى سبيل المثال لا الحصر،فإنها تشتق بعض موضوعاتها من الحكايات الخيالية، وهناك عدد لا بأس به من قصائدها يقترب في طوله من الملاحم الشعرية إلى جانب مجموعة لا بأس بها من الأعمال النثرية، بما في ذلك المذكرات، اليوميات، والرسائل، بالإضافة لعدد من المسرحيات الشعرية، وعلى الرغم من أن هذه الأعمال ليست كلها بالطبع أعمالاً مميزة، إلا أن الكثير منها يبدو كذلك وعلى سبيل المقارنة قد يتساءل المرء عما إذا كانت في مستوى شعراء مثل إليوت أو باوند والواقع أنها كذلك، وربما كانت لديها إمكانات أخرى لم تكتشف بعد.
وفيما كان معاصروها شديدي الإعجاب بأعمالها الشعرية المبكرة، فإن الشيء ذاته لا يمكن قوله عن أعمالها الصادرة في العشرينيات، وعلى هذا النحو يصف ماندلستام قصائدها:
' إن أشد ما يؤسف له في موسكو زخرفة الهواة النثرية التي قالتها مارينا تسفيتيفا في مديح العذراء'
وفي معرض تذمره من الشعر النسوي بوجه عام، ومنها على وجه الخصوص، يمضي إلى القول (بأن شعرها ما هو إلا نوع من الجرح لكل من الأذن والمشاعر التاريخية ) ،ويوافقه ليون تروتسكي، في كتابه الشهير 'الأدب والثورة (1923)' مطلقاً على شعرها اسم: الشعر الضيق الأفق، مضيفاً أن صورة الشاعرة نفسها تجسد صورة الرجل المهذب الواثق من نفسه، الذي يرتدي قبعة سباق الخيل أو يحمل المهماز العسكري، وفي أوساط الأدباء المهاجرين كانت القصة ذاتها تتردد، وتشير جامي جامبريل على نحو مقتضب إلى المعوقات التي كانت تواجهها أثناء كتابتها المقدمة المختصرة المتسمة بالتبصر الشديد ( إيماءات دنيوية ) :
إن قراءة تسفيتيفا ليست قراءة سهلة، حتى بالنسبة للمثقف الروسي نفسه، إنها تجعل القارئ يقف بمواجهة شيء مثل عبارات وأساليب جويس الثرية، المتراوحة بين مزية الخطاب المستوحى من الحكاية والإسهاب الذي تتميز به لغة الفلاحين إلى الأساليب الأدبية الراقية التي تعود بجذورها إلى الأساطير الإغريقية والرومانية، وإلى الكلاسيكية،و الرومانسية الألمانية، لقد استخدمت كل البحور الكلاسيكية الروسية، مضيفة إلى ذلك اختراعاتها الشخصية، كما أنها استفادت من على نحو حقيقي من الأوزان الفلكلورية الروسية إن موضوعها يتيح المجال لطرح أنواع مختلفة من المصادر الأدبية، والتاريخية، والفلكلورية، وكما قال ( فولوشين ) ذات يوم، إن عشرة شعراء يظهرون دفعة واحدة في تسفيتيفا.
تلك الكثافة اللغوية التي تتميز بها أعمالها تمكن مقارنتها بتلك الموجودة لدى جيرالد مانلي هوبكنز، باستثناء تعددية الأصوات المعروفة بها قصائدها ، و في إحدى رسائلها إلى الشاعر الألماني الكبير 'رينر ماريا ريلكه'، الذي تبادلت معه الرسائل حتى عام 1926، وأصرت على كتابة آخر رسالة له بعد وفاته،كتبت الشاعرة تقول :
' أنا لست شاعرة روسية كما أنني استغرب باستمرار من النظر إلي على هذا النحو، إن ما يحملني على أن أكون شاعرة هو السعي إلى ألا أكون فرنسية أو روسية، أو غير ذلك، لكي أكون كل شيء '
ومع ذلك تقول في الرسالة نفسها: 'على الرغم من ذلك فإن كل لغة لديها أشياء خاصة بها هي وحدها، وهي ذاتها' ،وقد كانت ( تسفيتايفا ) معجبة بالشاعر ( ريلكه) شاعر الموت والحزن وقد كانت تخاف على مصيره ، لأنها وجدت مصيرها قد لا يختلف عن مصيره كثيراً ، وأما ريلكة فقد كان يشعر وهو يقرأ أشعارها بأن كلماتها تذوب فوقه وتتملكه تماماً كالسحر .
أما جامبريل فتقول: 'إن تسفيتيفا هي شاعرة تلك الذات على نحو شديد التمسك بالحرفية ، فالكلمة هي وسيلة الإبداع ؛ المولدة لكل من الموضوع والمشاعر، إنها بمثابة التجسيد للروح '.
إن ما يعنيه السعي لأن يكون المرء شاعرا، يصغي لقصائده الآخرون، و يتسنى له تحويل الصوت إلى شئ أكثر أهمية من النظر، هو سعيه لأن يكون مفهوماً على نحو حقيقي، لكن أي من ترجماتها الشعرية التي أطلعت عليها - وهناك بالفعل الكثير منها - لم تكن متضمنة تلك القدرة اللغوية الهائلة، على الرغم من أن بعضها، كتلك التي ترجمها كل من نينا كوسمان و مايكل أم نيدان، تقترب منها إنهم يظهرونها في صورة بشعة غبية يرثى لها فيما هي ليست كذلك.
من جانب آخر فإن ترجمة الشاعرة لنفسها إلى الفرنسية لم تنجح هي الأخرى في تحسين صورتها حيث بالمقارنة بمترجمين من أمثال: روبن كمبول، تبدو تسفيتيفا شديدة التحرر فيما يتعلق بتغيير وتحويل نبرة قصائدها، وقد عملت ذلك لا باللجوء إلى استخدام كلمات مختلفة، وإنما بتغيير الصور بهدف الإبقاء على الجوهر، مدعية أن على المترجم أن يكتب شيئاً جديداً في أثناء ترجمته إلى اللغات الأخرى، لكن على الرغم من أنها تبدو قاعدة ذهبية، إلا أن الأمر لم يكن مجدياً بالنسبة لها ومع ذلك، فمن وجهة نظري،أن التحرر هو الأسلوب الوحيد للاستمرار في ترجمة أعمالها.
وترسم رسائلها لمحة عن تلك السنوات حيث أنها تقول : تدفأت بوقد الأثاث ، اشتغلت عدة أشهر ثم تركت العمل ، وتشير رسائلها الى أنها كانت تعاني من شعور دائم بالوحدة مع أن موسكو كانت ملأى بمن تعرفهم ومليئة بالمدارس الأدبية والاتجاهات الفنية، وقد كانت في تلك الفترة ترتاد مقهى الشعراء ، لكنها لم تكن تقدم شعرها لأن ( بروسوف ) الذي يترأس النشاط الأدبي لم يكن يتحملها ، وقد اضطرتها ظروفها المادية السيئة الى بيع كتبها الفرنسية كي تعيش بثمنها، ومع هذه الظروف القاسية فقد كانت تكتب، ونُشرت قصائدها في مجلة ' إرادة روسيا ' التي كانت تعبر عن أحد الأجنحة اليسارية للثوريين الاشتراكيين ، وتصدر في براغ بين 1922 - 1932. ومن مجموعاتها الشعرية في تلك الفترة، مجموعة ( بعد روسيا ).
وتقول الدكتورة ناديا خوست عن مارينا تسفيتايفا ( كأن مارينا اختارت منذ البداية بحارها العاصفة ، هي التي لا تحب البحر ! اختارت مهنة الشاعر ، واختارت زوجاً قّدر أبوها أنه ليس أهلاً لها . اختارت الجانب المهزوم في الصراع في روسيا ، والوقت الصعب الذي قدّر لعودتها الى وطنها. وفي شعرها ونثرها اختارت مركبها الصعب . يتبين حتى قارىء رسائلها صياغتها الجديدة ، تقليمها وتنقيبها. أليس ذلك العمل في اللغة هو ما فهمته وقدّرته في زميلها الشاعر باسترناك ؟ مارينا بذلك كله ساحرة . وساحرة أيضاً بمصيرها. كالضحايا والشهداء الذين يواجهون عصرهم بالصدق والاندفاع ، فيسددون ثمن ما تقدموا فيه كي يتقدم الزمن ، فيكون أكثر عدلاً ، والأدب أكثر عمقاً ، واللغة أكثر صفاء، لكن مارينا سددت أيضاً ثمن أوهام من حولها . وضحى بها خوف زملائها. من يسند مهاجرة زوجها وأختها وبنتها سجناء ، في زمن مواجهات كبرى لا تتوقف عند مصائر الأفراد: حرب التدخل بعد ثورة أكتوبر، والحرب العالمية الثانية التي احتلت ألمانيا النازية في أولها جزءاً من الاتحاد السوفييتي ! ).
ويرى الناقد والشاعر راشد عيسى في دراسة له عن الشاعرة بعنوان - رؤية في شعرية مارينا تسفيتايفا- ' أن الشاعرة عاشت في صراع دائم ، وهو صراع تقاسم الوجدان الجغرافي والنفسي بطولته، وأورثها روحاً مشظاة بالألم والقلق والمعاناة، فانعكس ذلك في شعرها انعكاساً فنياً جلياً . فلقد خافت رغبة أسرتها وتزوجت من فتى خيّب آمالها ، عاش مريضاً ومغترباً عنها في آن ، وصارعت مارينا طبيعة الأجواء العسكرية والسياسية في تلك الحقبة التي كانت فيها روسيا تغلي وتفور أحداثاً وحروباً وهجرات سكانية، في الوقت نفسه الذي تحاول فيه أن تؤمن لابنها وابنتيها لقمة العيش وحيدة من الزوج والصديق والأهل ، على الرغم من صداقاتها مع نخبة من الأدباء والفنانين في عصرها كباسترناك وبلوك وريلكه ، وماياكوفسكي وغوركي وغيرهم فلم تجد منهم عوناً ولا من الناشرين الذين لم يكونوا متبصرين بطبيعة شعرها المتميز ، فعاشت غربة الواقع كامرأة تبحث عن الأمن النفسي والحياة الزوجية المطمئنة '.
إن حياة هذه المرأة، التي تناولتها العديد من كتب السيرة الصادرة خلال السنوات العشرين الأخيرة على نحو تفصيلي، تصلح لكتابة عمل قصصي غير عادي ومثير، إن الحياة المأساوية بلا ريب، لا تمكن مقارنتها بمدى ما تشتمل عليه من بشاعة، فحتى في الأوقات العادية لا يكون بوسع أحدنا التأكد من حجم الفوضى التي يحدثها الناس في حياتهم بسبب عيوبهم الشخصية وسوء الحظ، وحجم الفوضى التي تتسبب فيها الظروف التي يجدون أنفسهم فيها . ومما يروى عن ظروفها القاسية التي مرّت بها أنها وفي ذات مرة اقتحم شقتها أحد اللصوص فأصيب بالرعب من هول ما شاهده من الفاقة، وهي بدورها قد طلبت من اللص الجلوس فجلس لتتحدث إليه، وهو يهم بالخروج مد يده إليها ببعض النقود .
وعلى الرغم من أن الحرمان لم يغادر حياتها مطلقاً، إلا أن تلك كانت مرحلة من حياتها تميزت بالإنتاج الغزير، في تلك المرحلة كتبت الدراما الشعرية الطويلة والعديد من القصائد القصيرة المغناة، كما امتلأت مذكراتها بما كانت تراه وتستمع إليه في أثناء تنقلها بين الأقاليم المختلفة سعياً وراء لقمة العيش، بعض هذه التعليقات يتضمنها ديوان ( إيماءات دنيوية )، وهو مجموعة من المختارات الرائعة من مذكراتها ومقالاتها التي ترجمتها عن الروسية ( جامي جامبريل )، هذه القصائد تلقي الضوء على المرحلة على نحو مشابه تقريباً لما أورده إسحاق بابل في قصصه القصيرة، وفي هذه الأعمال تبدو موهبة تسفيتيفا كناقلة للأحداث بارعة على الرغم مما قد يدعيه المؤرخون، عند وقوع الثورات، من أن السرقة تصبح أكثر أهمية من الفكر، ورغم ما يقوله زعماء تلك الثورات من أن الفقر، والجريمة، والنهب هي الحقائق الوحيدة التي يعرفها الضعفاء. والمؤكد أنه في الوقت الذي عاشت فيه حياة معذبة لم تفتقر للثقة والايمان بنفسها ، فمثلاً كتبت في مذكراتها في عام 1914 : أنا أدرك أنه لا توجد امرأة أكثر موهبة مني في عالم الشعر، وينبغي أن أضيف بأنه لا يوجد أنسان، ذلك ما أستحقه وما سأحققه خلال حياتي .
أما مؤلفات تسفيتيفا في السيرة الذاتية والمقالة فمليئة بالصور المهمة واللغة الثرية الرائعة، وهي تقول في إحداها:
' القلب: إنه عضو موسيقي، أكثر من كونه شيئاً بدنيا.
الموت لا يخيف إلا الجسد، فيما الروح لا يمكنها التفكير فيه، وبالتالي، فإن الجسد، هو البطل
الوحيد في حالة الانتحار'.
ومن الواضح أن آراءها في كل شيء من السلوك الإنساني إلى طبيعة الشعر هي في واقع الأمر عنيفة متميزة بالأصالة، غير أن شيئاً من تلك البصيرة الثاقبة لا يبدو واضحاً في حياتها الشخصية، وهي ترتكب الخطأ تلو الآخر وهي تقول في هذا الصدد : 'إنني مصدر هرطقة لا تنضب، حيث لا يمكنني التعرف إلى أحدها، وإنما التنبؤ بها كلها، وربما كنت حتى من صنع تلك الهرطقة ' .ولقد كانت تؤمن بأن وظيفة الشعر، هي الوقوف إلى جانب المهزومين، ولاشك في أن شجاعتها واستقلاليتها كانت من الأمور الجديرة اللافتة للانتباه.
لقد عاشت مارينا تسفيتايفا حياة زاخرة بالشعر والحب والأمومة والمآسي ، وأصدرت الكثير من المجموعات الشعرية ، التي كان أولها ما اعتبرته مارينا نفسها أشعار الطفولة ، حيث لم تكن قد بلغت بعد الثامنة عشرة من العمر، أما الديوان الثاني ( علامات ) فقد أصدرته وهي في العشرين من العمر ، وقد كانت دائماً غير خاضعة للاتجاهات الأدبية ولم تنضو تحت راية أي نظرية تسجن الأدب في قفص معين . ولقد كانت ( علامات ) مجموعة مذهلة حيث نجد الشاعر الكبير ( باسترناك ) يصف هذه المجموعة بقوله ( ما ان انتهيت من قراءة ديوان تسفيتايفا علامات حتى أحسست أن بئراً من القوة الشعرية والصفاء الدبي قد انفتح أمامي، فأنا لم أر شيئاً مثل تلك الإحاطة الشعرية الكبيرة التي كانت تتمتع بها هذه المرأة ) ، وهو ما بقي يردده فيما بعد حتى نهاية حياته .ولقد سارع باسترناك الى كتابة رسالة الى تسفيتايفا يوم 14/أيلول 1922 ليقول لها : ( اعذريني ، اعذريني ، وطلب الاعتذار هذا جاء لأني لم أطلع على ما كتبتيه من شعر بشكل مبكر جداً ، واعذريني لأني لم أطلع سابقاً على ديوانك - علامات الذي يمكن أن أصفه : بالمعيار الحقيقي للشعر الرائع الحديث، وفي الحقيقة يمكننا أن نؤكد أن شعرها قد أحدث انقلاباً فكرياً واضحاً لدى ( باسترناك ) لشدة تأثره بذلك العمل الأدبي .
وهي بلا شك شاعرة كبيرة ، خذلتها حياتها العاصفة ، ففي عام 1917 التحق زوجها ( ايفرون ) بالجيش الأبيض للقتال في الثورة البلشفية، وغاب عنها لمدة خمس سنوات قاست بها وكتبت كثيراً وقد عاشت مارينا قبل الهجرة شروط الحرب الأهلية والمجاعة التي شهدها الاتحاد السوفييتي ، ولسوء حالها وتردي أوضاعها فقد اضطرت في عام 1919 أن تضع ابنتها ( ايرينا ) المولودة في عام 1917 في بيت الأطفال،حيث ماتت في أيام الجوع سنة 1920 وهي تشير الى ذلك في رسالة كتبتها في عام 1920 تذكر بها أنها استطاعت أن تنقذ ابنتها( إليا ) ، لكن ابنتها ( ايرينا ) ماتت من الجوع ، وقد ترك موت ابنتها في داخلها ألماً وجرحاً عميقاً وشعوراً بالتقصير لم يفارقها طوال حياتها ،ولقد اضطرت عام 1922 أن تسافر لتلتقي بزوجها بعد ظهوره في براغ،وتحول سفرها الى لجوء قادها الى برلين ثم براغ لينتهي بها المطاف في العاصمة الفرنسية باريس لتقيم هناك نحو 17 عاما، حيث غادرت هي وابنتها روسيا بهدف الالتحاق بزوجها الذي كان يعيش في براغ، ومع ذلك فقد وصل بها المطاف إلى برلين حيث أمضت فيها شهرين ، وهي المكان الذي وجدت فيه نفسها على علاقة مع رجل آخر، هو ناشر أعمالها في الوقت الذي كانت تنتظر فيه اجتماع الشمل مع زوجها، وقد أقامت أسرتها بإحدى القرى الواقعة على مشارف براغ وأمضت بها عامين ونصف، وفي 1925 ولد ابنها جورجي أو مور، كما أطلق عليه، في حين تميزت سنواتها في تشيكوسلوفاكيا بالسعادة النسبية،حيث كانت الحكومة تمنح الطلاب والمثقفين الروس المهاجرين مرتبات سخية، وكانت تكتب أيضاً بعض قصائدها، وربما في هذه الفترة كتبت أفضل قصائدها الطويلة وملاحمها الشعرية، وقد أصابها في غربتها الشقاء جراء بعدها عن شعبها وأنماطه الحياتية وعن مدينتها التي كانت تحبها، وزاد من شقائها زوجها الذي تصورت أنه عبقري يستحق التضحية فاكتشفت أنه خيبتها الكبرى وحملها الثقيل . وقد كتبت في تلك المرحلة، 'الراعي' و 'الزمار الأرقط'، وهي موضوعات مقتبسة من الحكايات الخرافية، بالإضافة إلى اثنتين من أفضل قصائدها وهما 'قصائد الجبل' و'قصائد النهاية' ، وفي رسالة كتبها زوجها في ذلك الوقت يقول واصفا الحياة معها:
' مارينا امرأة يفيض قلبها بالعاطفة الجياشة.. إن الغوص بشكل رأسي في أعاصيرها تحول إلى شيء أساسي في حياتها، إلى الهواء الذي تتنفسه، ولم يعد مهماً التعرف إلى من توقظه تلك البراكين، فدائماً تقريباً- أو باستمرار - يكون ذلك مبنياً على خداع الذات، حيث يدعى الرجل ليبدأ البركان، فإذا تكشفت عدم أهمية أو ضيق أفق موقظ البركان على نحو سريع، حينئذ تكشف مارينا عن بركان من اليأس، وهي حالة تعين على ظهور موقظ جديد غير أن الأهم هو ليس ماذا، وإنما كيف، ليس الجوهر ولا المصدر وإنما الإيقاع، الإيقاع المجنون اليوم قد يكون هناك يأس، وغداً - ابتهاج، وحب، انغماس تام في الملذات، ؛ وكل ذلك بذهن ثاقب، بارد.
إن عوامل إيقاظها بالأمس كانت مضحكة وقاسية على نحو شديد الذكاء، كل شيء تدونه في كتابها كل شيء يسبك ويتحول ببرود، وكأنه معادلة رياضية إلى خلطة تطبخ على موقد ضخم، نيرانه تحتاج إلى حطب أكثر فأكثر، أما الرماد غير المرغوب فيه يتم التخلص منه، كما لا تهم نوعية الحطب؛ فالموقد يعمل بشكل جيد في الوقت الراهن ليتحول كل شيء إلى لهب، الحطب الرديء يحترق سريعاً، والجيد يستغرق وقتاً أطول، وغني عن البيان؛ انه قد مضى وقت طويل على الوقت الذي كنت فيه ذا فائدة في إيقاد النار '. أما ردها على هذه الرسالة فلا يبدو متناقضاً مع ما يقوله:
' لست مخلوقة لهذه الحياة، وبالنسبة لي فإن كل شيء يبدو حريقاً، بإمكاني التورط مع عشرة رجال في وقت واحد (كم هي علاقات رائعة تلك العلاقات)، ولكن لا يمكنني أن أتحمل الصد..
إنني 'أشعر بالجرح'، ألا تفهم؟
إنني إنسانة مجردة من السلاح، بينما أنتم مسلّحون كلكم يتوفر لكم الفن، القضايا الاجتماعية، الصداقة، التسلية واللهو، العائلات، العمل... فيما أنا، في أعماقي لا أملك شيئاً إن كل شيء يتساقط كالجلد وتحته يختفي الكائن الحي أو النار.. إنني روحانية لا انتمي لشكل معين، ولا حتى الشكل البسيط الذي يوجد في قصائدي'
وفي نوفمبر 1925 غادرت أسرتها إلى باريس على أمل أن يكون لتسفيتيفا هناك اتصال أكبر بغيرها من الكتّاب، أما مشاركتها الأولى في إحدى القراءات فهي شيء لم يتكرر مرة أخرى، فبعد ذلك الاستقبال الحار من الجالية الروسية، توطدت العلاقة بينهما على مدى السنين إما لدوافع أدبية أو سياسية، ورغم أن الأدب السوفييتي شيء بغيض بالنسبة لهؤلاء المهاجرين، إلا أنه لم يكن كذلك بالنسبة لها حيث كانت تمتدح علانية الشعراء الشيوعيين من أمثال ماياكوفيسكي، وفي تلك الأثناء كانت عائلتها تعاني من الفقر ولم يكن زوجها قد التحق بوظيفة، ولم تكن لديه الخبرة العملية في شيء ولم يكن حتى لديه نية السعي إلى ذلك، لم يكن يطربه غير السياسيين الروس. وفي هذا العام ذاته أي 1925 وعندما كانت تبحث عن ناشر ولم تجد كتبت تقول : على أي حال عندما أموت سينشر كل شيء.
وفي الثلاثينيات تورّط زوجها في الانضمام إلى منظمة كانت تعرف باسم( اتحاد العائدون لروسيا )، كان يعتقد بتشكيلها جبهة للمخابرات السوفييتية وبعد تحوله إلى الستالينية؛ تعرضت تسفيتيفا المسئولة عن توفير احتياجات الأسرة المادية من الكتابة ومن المساعدات التي كانت تتلقاها من أصدقائها الأغنياء لحالة من العزلة المترتبة على نشاط زوجها السياسي، وكانت الأجواء المحيطة بها في ذلك الوقت شديدة التوتر وفي تلك الأثناء كان ( إيفرون ) يتحدث عن مغادرته إلى روسيا، وعن شعوره بالذنب تجاه مشاركته في القتال في الحرب الأهلية إلى جانب الجيش الأبيض، وبدورهم كان أبناؤهما يؤيدون وجهة النظر تلك، وفيما بدأت ابنتها بالعمل لدى إحدى المجلات الفرنسية اليسارية، وبالتورط في دائرة الولاء للسوفييت؛ بدأت تراودها بعض المخاوف بالنظر إلى أن تلك المرحلة كانت هي مرحلة ستالين المرعب الأكبر، وكانت العودة بالنسبة لها كابوساً رهيباً، وما قالته للآخرين هو أن زوجها كان يرى ما يحب أن يراه، ويغّض الطرف عما كان يجري في روسيا، وحتى بعد عودة ابنتها إلى موسكو في سنة 1937 ، ظلت مترددة في ذلك، غير أن الحياة في باريس كانت مستحيلة بالنسبة لها، في أعقاب خضوع زوجها للتحقيق على يد رجال الشرطة الفرنسية لعلاقته بجريمة قتل جاسوس سوفييتي كان يرفض العودة لروسيا.
في سبتمبر 1937، وقبل إكمال التحقيق مع ( إيفرون )نجح في الفرار إلى الاتحاد السوفييتي، فيما أكدّت التحقيقات الأخيرة علاقته بالسلطات السوفييتية، وتورطّه في عدد من الاغتيالات بما في ذلك اغتيال ابن تروتسكي في تلك المرحلة، وبسبب عدم تصديق الآخرين أنها لا تعرف شيئاً عن نشاط زوجها الإستخباراتي؛فقد فقدت علاقتها بأصدقائها كما تعرضت للإقصاء من الأوساط الأدبية، ولم تكن قادرة على نشر أي من أعمالها، وظلت تعيش في تلك الفترة على الراتب البسيط الذي منحتها إياه في ذلك الوقت السفارة السوفييتية بانتظار السماح لها بالعودة إلى موسكو، وفي 12 يونيو 1939 غادرت هي وابنها، وفي خطابها الأخير لأحد الأصدقاء وهي تغادر بحراً من الهافر كتبت تقول:
' وداعاً! إن ما يأتي الآن لن يكون شاقا على الإطلاق، ما يأتي هو القدر'.
وفي موسكو تناهى إلى علمها أن شقيقتها كانت تقيم بأحد المعسكرات ولم يمض على وصولها شهران؛ حتى القي القبض عليها حيث واجهت اتهاماً بالتجسّس لصالح حكومات غربّية، ليتم إلقاء القبض على زوجها بعد وقت قصير، وهناك احتمال بأن يكون ( إيفرون ) قد لقي مصرعه بعد ذلك بوقت قصير رمياً بالرصاص، فيما أمضت ابنتها سبعة عشر عاماً من الإقامة في المعسكرات، غير أنها لم تراهما بعد ذلك، وفي تلك الأثناء لم يكن لديها المال ولا الملجأ الذي تعيش فيه، حتى أن أصدقائها السابقين كانوا شديدي الحذر من مساعدة زوجة 'عدو الشعب' المهاجر السابق.
وعندما عادت مارينا إلى موسكو من المهجر في سنة 1939 بعد غياب استمر سبعة عشر عاماً حدثت فيها تحولات جذرية في حياة بلادها ، فقد وجدت زوجها مريضاً يقيم في بيت صيفي في ضواحي موسكو، وفي السنة نفسها اعتقلت ابنتها وزوجها ، حيث كانت ابنتها ( أريادنا ) قد رجعت الى الاتحاد السوفييتي في عام 1937 مع والدها، وفي شتاء وربيع 1940 عاشت في بيت الكتاب في ضواحي موسكو ، وقد كتبت في هذه السنة في دفترها الشخصي ( لا اريد أن أموت ، أريد ألا أكون .هراء. ما زلت ضرورية . لكن يا إلهي ، كم أنا صغيرة لا أستطيع شيئاً ) وأضافت ( ربما أحببت أكثر من كل شيء في الحياة المأوى ، وهو ما هرب من حياتي دون عودة ) ، وفي عام 1941 كتبت مارينا في إحدى رسائلها عتاباً قاسياً تلوم موسكو التي منحها والدها متحف الفنون ومكتبته ومكتبة أبيه ومكتبة زوجته ، وهي التي بخلت على ابنته بغرفة تأويها حيث تقول ( نحن اهدينا موسكو، وهي رمتني ) .
وعلى الرغم من اشتغالها بالترجمة ذات المردود المادي القليل، ورغم تقديمها للنشر مجموعة من الأعمال الشعرية، إلا أن الناشرين كانوا يرفضون نشر أعمالها بحجة عدم تضمنها ما تقوله للشعب السوفييتي، ورغم سعي باسترناك إلى مساعدتها إلا أن ذلك لم يكن مجدياً في أثناء غزو ألمانيا لروسيا في يونيو 1941 وإمطارها موسكو بالقنابل.
وإبان شعورها المتزايد بالخوف نجحت في الفرار إلى ( إيليبوغا )،وهي قرية صغيرة على نهري تويما وكاما، واستأجرت منزلاً ثم توجهت إلى إحدى المدن الكبرى حيث كان يقيم عدد من الكتاب ، فيما استمرت جهودها في السعي إلى الاستقرار هناك، حتى أنها كانت تسعى للحصول على وظيفة غاسلة أطباق في الكافيتيريا التي كان يرتادها أولئك الكتاب، وعلى الرغم من الأمل الكبير بفوزها بتلك الوظيفة إلا أنها نفسها كانت قد وصلت إلى مرحلة شديدة من اليأس ففي 31 أغسطس، وفي أثناء غياب ابنها ومالكي المنزل الذي كانت تقيم فيه، علقت نفسها بمشنقة على مدخل غرفتها وكانت قد تركت ثلاث رسائل صغيرة، اثنتان منها تتوسل فيهما لأصدقائها من أجل رعاية ابنها فيما الأخيرة موجهة له :
' سامحني، لكن الأمور كانت ستصبح أكثر سوءا إنني مريضة حقاً، هذه ليست أنا، أحبك بجنون حاول أن تفهم أنني لم أعد أطيق العيش أكثر من ذلك، أخبر والدك وأختك - لو رأيتهما - أنني أحببتهما لآخر لحظة، وقل لهما أنني وصلت إلى طريق مسدودة'
وفي سنة 1941 أجليت مع ابنها مع سكان موسكو خشية الاحتلال النازي، وسجل مودعوها أنها كانت قلقة تبحث دائماً عن ابنها مع أنه قربها ، وفي طريقها الى ( ايليبوغا ) التي وصلتها في آب 1941 بعد رحلة شاقة وطويلة وعاشت فيها عشرة أيام فقط قبل أن تنتحر ، كتبت الى اتحاد الكتاب التتري رسالة تقول فيها ( أطلب أن تفيدو مني كمترجمة . لا آمل في الاقامة في ( ايليبوغا ) لأني لا أملك إلا مهنة الكاتب ، وفي ايليبوغا حصلت على مسكن عند رجل وامرأة وكان برفقتها ابنها وكان في حينه في السادسة عشرة من عمره، وكان غريباً عن الحياة في روسيا وغير واع لظروف الحرب ، فطلب من أمه طقماً جيداً وجوارب جيدة ، وماذا بوسع أمرأة مهاجرة محطمة فقيرة الحال أن تفعل من أجل تلبية طلب ابنها ، وعندها فقد اقترح عليها أن تغسل الصحون في مطعم ، فسافرت بعد أيام قاصدة الكاتب ( أسييّف )، لعله يستطيع أن يساعدها في الحصول على عمل في مجال الكتابة، وعادت بعد ثلاثة أيام محطمة حيث أن أخوتها الكتاب ، ومنهم أسييّف وفيدرين لم يساعدوها ، وربما لم يعدوها بمساعدة، فعادت من لقائها بهم يائسة ، وفي 31 آب في يوم العمل الطوعي ، وكان يوم أحد ، خرجت صاحبة البيت مع ابن مارينا ، وخرج زوج صاحبة البيت غلى السوق ، وبقيت مارينا في البيت طالبةً ألا يزعجها أحد ، كتبت رسالة الى ( أسييّف ) راجيةً أن يُعنى بابنها . وانتحرت . ولما عادت صاحبة البيت ورآت مارينا مشنوقة استدعت الشرطة التي أخذت بدورها الجثة الى المستشفى ومن ثم الى القبر ، ولم يشيعها أحد حتى ابنها فبقي مكان قبرها مجهولاً ، وفي مرتفع من المقبرة دفن مهجرو موسكو الموتى، وهناك وضعت فيما بعد أخت مارينا لوحة كتبت عليها في اختصار : في هذا الجانب من القبرة دفنت مارينا ايفانوفنا تسفيتايفا في 31 آب 1941. وهكذا تكون قد انتهت رحلة حياة هذه الشاعرة بشكل تراجيدي عن تراب وطن لم يتسع صدره للحرية، حيث لم تعد تجد لها موطىء قدم في بلاد أصبح الرعب يسيطر عليها ويحيل البشر فيها الى مجرد أوراق في مهب الريح. فيما أخذ مور إلى الخدمة العسكرية في سنة 1943 ليلقى حتفه في سنة 1944.
وتقول فكتوريا سكويتزر إحدى كاتبات سيرة حياتها: عندما أبعدت عن المشنقة وأخذت إلى المشرحة، عثر الحانوتي في أحد جيوب الغطاء على مفكرة مراكشية زرقاء، ورغم وجود قلم رصاص رفيع جداً مرفق بها، إلا أن المفكرة كانت بالتأكيد صغيرة جداً لا يمكن تدوين أي شئ بداخلها، لكنه ظل محتفظا بها، ظل محتفظاً بها لأكثر من أربعين عاماً ومن فراش الموت طلب تسليمها إلى أقاربها وبداخلها، كانت هناك رسالة مكتوبة بخط يدها تبدو كما لو أنها من العالم الآخر مرسلة إلى ابنتها في مورودوفيا، الاسم الذي كان يطلق على الجمهورية السوفييتية الواقعة في الأورال، والتي أرسلت إليها ابنتها لتعيش في أحد معسكرات العمل بها..
وبعد نصف عام على مقتلها اشتكى الكاتب الكبير بوريس باسترناك قائلاً : ' لو أنها صبرت شهراً فقط لكُّنا سافرنا انا وقسطنطين ألكسندر روفيتش ( فيدين ) ، ولضمنا لها نفس مقومات الحياة التي كانت متوفرة لنا ، لعملت كما نعمل ، ولشاركت في اجتماعاتنا الأدبية الدورية ، ولعاشت في تشيستابول '.
والحقيقة أن الأمر الوحيد الذي كا يوثقها الى الحياة كان حبها لابنها، أما ما تبقى فقد أقصته، مور وحده كان بإمكانه أن يمسك بها ، كان عليه أن يجعلها تفهم أن وجودها ضروري له، وجودها هي بالذات وليس ما تكسبه، وليس إقامتها كذلك ، لكنه لم يفعل هذا ، وعليه فقد بدأت تدرك في شهر شباط ان النهاية قد حانت ، فكتبت شعراً حزينا يشير الى حتمية النهاية،وترى ( فيكتور ياشفيتسر ) في كتاب لها أصدرته عن الشاعرة بعنوان ( حياة وكينونة ) وقامت بترجمته للغة العربية الكتورة أميرة الحسيني بأن الشاعرة مع أنها كانت تفكر طيلة الوقت في الانتحار إلا أنها كانت تخافه ، فهو مشوه ومفزع ولكنها لجأت اليه حين لم تجد أمامها مخرجاً، ويتضح هذا من شعرها :.
موسم نزع الكهرمان قد حان
وحان وقت تغيير المفردات
وحانت، ساعة إطفاء القنديل
الذي فوق الباب ...
المراجع:-
1.جريد الاتحاد،جريدة يومية سياسية، الصحيفة المركزية للإتحاد الوطني الكردستاني، العدد 1561، تاريخ( 15/5/2007)،السنة الخامسة عشرة ، ثقافة وفن : تسفيتايفا باسترناك ريلكة : رسائل من القلب، ترجمة: سعد هادي سليمان عن litteraire الفرنسية .
2.رؤية في شعرية مارينا تسفيتايفا ، راشد عيسى ، مجلة أفكار ، صفحة( 177- 180)،
3.مارينا تسفيتايفا من رسائلها ، د. ناديا خوست ، مجلة الأداب الأجنبية مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق ، العدد 98 ربيع 1999.
4.تسفيتيفا : ما يحملني على أن أصبح شاعرة هو عدم الرغبة بأن أكون فرنسية أو روسية، بقلم : مريم جمعة فرج ، مجلة البيان ، 9 مارس 2003 العدد 161.
5.حياة وكينونة مارينا تسفيتايفا : مقدمة الجحيم،مجلة الشاهد ، العدد 161 (كانون الثاني 1999) تصدر عن شركة الشاهد للنشر والتوزيع نيقوسيا .
6.أديبات منتحرات بصمات واضحة ما زالت داخل الثلج، إعداد: تيسير النجار،ملحق مشارف، جريدة العرب اليوم، صفحة 25، العدد 1163 السنة الرابعة ، الاثنين 24/7/2000 .
7.مختارات من أشعار مارينا تسفيتايفا ، إختيار وترجمة : د. ثائر زين الدين ، مجلة الأداب الأجنبية ، مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق ، العدد 98 ربيع 1999.
8.ضحية الأنظمة الشمولية ..عندما أموت سيُنشَر كل شيء ، مارينا تسفيتيفا روسيا ، ترجمة كريم المالكي : عن الهيرالد تريبيون، جريدة الراية ( 15/1/2007) .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.