{ الفطرة وحدها هي التي جعلتني ألاحق أخبار اختفاء الطفلة (وئام) وتفاصيل مجريات الأحداث، كيف لا والأمومة الفطرية بأعماقي ترتعب من كل الروايات المشابهة وتلحظ كل ما طرأ على مجتمعنا من مستجدات وسلوك سلبي ينمو باضطراد رغم اجتهادات الإخوة في أجهزة الأمن للحد من ملامحه وتأكيدهم المستمر لنا بأن الأمن مستتب وقيمنا الأصيلة على ما هي عليه وهو جهد يحسب لهم ولكنه لن يعيد بأي حالٍ من الأحوال ثقتنا في من حولنا. وعندما عادت (وئام) إلى أهلها بعد تلك الليالي الطويلة كنت أتساءل عما هي عليه وكيف قضت تلك المدة بعيداً عن كنف ذويها بكل طفولتها الغضة التي لا تطيق مرارة الفقد؟... وأصابني وجعٌ كبير وأنا أراها حليقة الرأس لأسباب مجهولة وبسلوك غريب من أيد مجهولة لم أستطع أن أفهم حتى الآن مراميها من ذلك. كل هذا جعلني أسارع لتلبية الدعوة الكريمة التي وصلتني بالإنابة عن وئام من مجموعة (دال) ممثلة في قطاع المسؤولية الاجتماعية بها وبالتعاون مع الأمانة العامة للمجلس القومي لرعاية الطفولة للاحتفال بعودتها سالمة تحت شعار (أمن أطفالنا مسؤولية الجميع)، وفتح باب التفاكر حول هذه الظاهرة الغريبة وتكريم كل الذين أسهموا في عودتها سالمة تقديراً لمروءتهم. { وفور وصولي مكان الاحتفال الأنيق بدأت أتفرس في وجوة الأطفال بحثاً عن صاحبة الحفل، وكأنني كنت أنتظر منها أن تكون بملامح مختلفة رسمت عليها تلك التجربة العصيبة بعض سمات الذهول والخوف. ولكنني سعدت جداً إذ وجدتها تتقافز بين الحضور ببراءة وترحب بالجميع وتلبي كل النداءات وكأنها كبرت فجأة وفاقت سنواتها الأربع الغضة... د.(ناهد محمد الحسن) اختصاصي علم النفس لم تر في ذلك محمدة ولفتت انتباهنا إلى أن وجودها طوال تلك المدة في بيئة مختلفة عما اعتادت عليه يعد بكل المقاييس حدثا صادما يحتاج إلى دعمٍ نفسي وإعادة تأهيل. فالنظام المعرفي للأطفال في فهمهم للأحداث لا يتوافق معنا ككبار تداعينا لهذا الطقس الاحتفالي وأرغمناها على الانخراط في برامجنا دون مراعاة لمشاعرها، مشيرةً إلى ضرورة توخي الحذر الشديد في مراقبة أبنائنا لأن الخريطة الأخلاقية السودانية قد تغيرت ولم تعد ناصعة كما كانت عليه ولا يمكننا إنكار ذلك ولكن قد يحلو لنا أن نتحايل عليه بحجة انفتاحنا الحدودي الكبير. { بالمقابل جدد لنا العقيد شرطة د.(أكثم الثماني) مدير وحدة حماية الأسرة والطفل رهانه على الأخلاق السودانية النبيلة مشيراً إلى أن قضية اختفاء الأطفال لا تعدو كونها حالات فردية لا ترقى إلى مستوى الظاهرة. مشيداً بالدور الكبير الذي قام به (المجلس القومي لرعاية الطفولة) بقيادة الرائدة (قمر هباني) في تفعيل قانون الطفل للعام 2010 بعد لأي شديد الذي يعد طفرةً تشريعية كبرى إذ تنص المادة (45) منه على تنفيذ إحدى عقوبتي الإعدام أو السجن لمدة 20 سنة على كل من يقوم باختطاف أو يتحرش جنسياً بمن هو دون الثامنة عشرة. وهو ما يعد عقوبةً رادعة لم يترك أمام أي قاض خيار عداها. كما أثنى سيادته على الدور الكبير الذي يلعبه الإعلام المتزن والموضوعي في الحد من هذه الجرائم والمساعدة في حلها طالما كان بعيداً عن الإثارة. { وكانت (دال) - في إطار تفاعلها الاجتماعي المميز - قد قدمت خلال الاحتفال بعض الهدايا للطفلة من ضمنها قرط ذهبي جميل تعويضاً عن ذلك الذي أخذ منها إبان فترة ضياعها، كما تمت مكافأة كل من الشاب (أحمد) الذي وجدها هائمة على وجهها واقتادها إلى مركز شرطة الصناعات – بحري، والشرطية (إشراقة محمد عبد الخالق) التي تعرفت على هويتها هناك بعد أن اعتقد الجميع أنها ولد لما لحق بشعرها البريء، بمنح كل منهما شاشة تلفزيون حديثة مقدمة من مجموعة (دال) إسهاماً منها في تحفيز معاني المروءة والخير. ورغم سعادتي الكبرى بعودة (وئام) وتقديري للمبادرة الجميلة التي تنادينا إليها، إلا أنني لا أزال أشعر بالأسى والغبن، فقد عادت (وئام) والحمد لله ولكن لم تعد (بانة) وغيرها بعد. ولا يمكننا أن نصفق فرحين بينما تؤكد دراسات اليونسيف العالمية تنامي معدلات العنف ضد الأطفال. فالعالم لم يعد آمنا كما كان والعديد من العناصر الواجب توفرها للبيئة الآمنة للطفل غائبة، رغم توفر القوانين والتشريعات العادلة وآليات إنفاذها، إلا أننا لا نزال نحتاج لنمو في معدلات الوعي لدى الأسر والأطفال وحتمية تمليكهم المعلومات السليمة عن حقوقهم وحقائق تكوينهم.. وعلينا الخروج من دائرة الصمت والاستسلام لندفع عنهم مخاطر الحياة والمجتمع. كما يجب علينا أهل الإعلام مراعاة الخصوصية والمصداقية في النشر لأن المجتمع لا ينسى والآثار الملازمة لمثل تلك القضايا الحساسة طويلة الأمد. { عموماً... و نحمد الله على عودة (وئام) التي ستكون عند قراءتكم لهذه السطور قد غادرت البلاد بصحبة أسرتها إلى دولة (قطر) الشقيقة حيث أتمنى أن تستطيع نسيان كل ما جابهته من ألم وعذاب خلال هذه التجربة العصيبة... وليتها تفعل. { تلويح: شكراً للقائمين على أمر هذه المبادرة.. والتهنئة لأسرة (وئام) بسلامة العودة... جعلها الله آخر أحزاننا وأحزانهم..