صادف يوم أمس الاثنين الموافق 19 ديسمبر الذكرى السادسة والخمسين لإعلان الاستقلال من داخل البرلمان وكان حزب الحكومة القائمة الوطني الاتحادي اكتسح انتخابات الحكم الذاتي التي أجريت في نوفمبر 1953م وشكل برئاسة الزعيم إسماعيل الأزهري حكومته الأولى مع اشتراك بعض السياسيين الجنوبيين في وزارات توصف بأنها وزارات هامشية أو ثانوية مثل الثروة الحيوانية والنقل الميكانيكي والمخازن والمهمات وتعرضت تلك الحكومة لثلاث تجارب كبيرة قاسية جعلت كثيراً من الناس يشفقون على مشروع الدولة الجديدة المقبلة على مصيرها وتلك التجارب هي حوادث مارس 54 عندما سال الدم غزيراً في شوارع الخرطوم عند زيارة الرئيس المصري اللواء أركان حرب محمد نجيب للخرطوم لحضور افتتاح البرلمان وحوادث توريت في أغسطس 55 عندما أسال الجنوبيون دماً شمالياً غزيراً بكل الهمجية والحقد ومأساة عنبر جودة بالنيل الأبيض حيث مات عشرات المزارعين اختناقاً . ورغم ذلك فإن الحكومة كانت حتى ذلك الوقت من ديسمبر 1955 لا تزال في موقعها وأكثر من ذلك أنها فاجأت الدنيا وأذهلتها بإعلان الاستقلال من داخل البرلمان. كيف كان الوضع السياسي في ذلك العام الممتلئ 1955 في البلدين اللذين كانا يحكمان السودان بريطانيا التي كانت تحكمه فعلياً ومصر التي كانت تحكمه اسمياً فقد كانت هي الشريك الأصغر جداً وكان يدنس أرضها ثمانون ألف عسكري بريطاني؟ كان المحافظون يحكمون بريطانيا منذ عام 1951م وكان رئيس الوزراء حتى أغسطس 55 هو تشرشل بطل بريطانيا في الحرب العالمية الثانية ورئيس وزرائها في تلك الفترة وكان قد شهد كرري 1898 ملازماً في جيش كتشنر ومراسلاً حربياً وألف عن تلك المعركة كتابه المعروف حرب النهر وتقاعد في ذلك العام من رئاسة الحكومة ليخلفه إيدن الذي عصفت به بعد سنتين حرب السويس التي اشتعلت عام 56 وشغل إيدن من قبل منصب وزير الخارجية . وفي ذلك الوقت من ديسمبر 1955م كان اللواء محمد نجيب رئيس الجمهورية المصرية ورئيس مجلس قيادة الثورة قد أصبح من أخبار الماضي فقد أبعد من الحكم وحددت إقامته في فيلا حرم النحاس باشا بالمرج. ومن رأي البعض أن هذا الحادث والعنف الذي تعرض له الإخوان المسلمون جعلا كثيراً من السودانيين يتوجسون من فكرة الاتحاد مع مصر التي تولى أمرها ضابط شاب هو المقدم جمال عبدالناصر. ولم يكن السودانيون حتى ذلك الوقت من ديسمبر 55 قد بلوروا مشاعرهم نحوه وحددوا موقفهم منه لكنهم كانوا على اختلاف أحزابهم يكنون تقديراً عالياً للرئيس المعتقل محمد نجيب وكانوا لا يزالون يحبونه. وكانت الحرب الباردة بين القوتين العظميين الولاياتالمتحدةالأمريكية والاتحاد السوفيتى في أوجها وكانت أفريقيا جنوب الصحراء باستثناء إثيوبيا خاضعة تماماً للاستعمار الذي كان بريطانياً وفرنسياً في معظمه وكان أيضاً برتغالياً . وفي تلك الظروف أعلن استقلال السودان من داخل البرلمان في 19 ديسمبر 1955م.