أستاذ بجامعة الخرطوم كلية الآداب قسم علم النفس، تخصص في علم النفس الاجتماعي والسياسي، وحصل على الدكتوراه في هذا المجال.. هذا بجانب اهتمامه بقضايا الحرب والسلام، الأمر الذي دفع إدارة الجامعة لاختياره مديراً لمعهد أبحاث السلام بجامعة الخرطوم.. إنه الدكتور محمد محجوب هارون. (الأهرام اليوم) في إطار سعيها الدؤوب في التنقيب والبحث عن تفاصيل قضايا الدولة السودانية جلست معه في مكتبه المتواضع بالجامعة وطرحت عليه عدة أسئلة تمحورت حول قضايا الحرب والسلام، وتطرقنا إلى واقع الحكم في السودان وموقف المحاسبة والشفافية ومدى الثقة بالمؤسسات، وهجرة العقول وواقع التنمية الاقتصادية والاستقطاب بين السكان في الوظائف والتعليم ومستوى دخل الفرد.. وعرجنا معه إلى الانشقاقات في الأحزاب السياسية، ورؤيته لطرق إدارة الساسة السودانيين.. والسبب الذي أدى إلى انفصال الجنوب.. جدل الطريق الأمثل لحكم السودان كان حاضراً، بجانب الدستور الجديد والصراع الإثني وتأثيره على السياسة السودانية، وتطرقنا إلى ربيع الثورات العربية وإمكانية وصوله إلى السودان.. وغيرها من الموضوعات التي تشغل الساحة حالياًِ. استمع الرجل لجميع أسئلة (الأهرام اليوم) ورد عليها رد العارفين المدركين لقضايا الحرب والسلام وطرح رؤى مستقبلية للسودان وكانت حصيلة ردوده هذا الحوار: { بسبب فشل الساسة السودانيين والأنظمة السياسية المتعاقبة على حكم السودان انفصل الجنوب ولنفس الأسباب هناك تخوف من أن تذهب أجزاء أخرى من الوطن، ما هو المطلوب لعدم تكرار تجربة الانفصال؟ - كما قلت نضع القاطرة على السكة ونؤمن مسيرة القطار، وإذا استطعنا أن نفعل ذلك بالضرورة يكون قد أسسنا قاعدة للتوافق السياسي ليس كنخب فقط ولكن كمواطنين أولا، وهذا التوافق لا يتم إلا بشروطه ولن يكون المواطن راضيا عن الدولة إلا إذا رأى هذه الدولة تعتني بمشاغله، وإذا لم يتوفر ذلك لن نبلغ مرحلة الاتفاق على وضع القطار على السكة، وبالتالي نحن بحاجة إلى أن نتفق على مشروع يملك الدولة للمواطن ويخاطب مشاكل المواطن الأساسية وليس بالضرورة أن يتم توفير احتياجات المواطن بضربة واحدة هذه عملية تأخذ وقتها، لكن لا بد أن يقتنع المواطن بأن هذا المشروع سينتهي به إلى تحقيق مطلوباته من الدولة، وبالضرورة يعني ذلك أن يقوم المواطن بواجبه تجاه المجتمع والدولة في نفس الوقت وأن يكون هناك مواطن ممكّن من أن يقوم بوظائفه كمواطن من خلال توفير هذا التمكين المتمثل في توفير (التعليم والصحة وغيرها) وأن يكون هذا المواطن عنصرا فاعلا في ملحمة وطنية كبيرة يشترك فيها الجميع، كل حسب إمكانياته وحسب طاقته ومجال تخصصه بحيث ننتهي في المحصلة النهائية بالنتائج المطلوبة لمشروع نهضوي و(بلد زي الناس) أنجز برنامج النهوض الأساسي ويكون الناس راضين عن بعض ويحسوا بأن هذا الوطن شراكة بينهم جميعا. { في ظل حالة الشد والجذب.. ما هي أنسب الصيغ لحكم السودان؟ - هذه المفاهيم في كثير من الأحيان تطرح دون الاتفاق على ماذا تعني، أنا شديد التحفظ على اللعب بمصطلحات (العلمانية والدينية) والدولة المدنية والدولة الدينية من ناحية أخرى، هناك دولة وظيفية هي التي تقوم بمجمل مهام الدولة تجاه الوطن والمواطن، ومن ضمن ذلك أن الدولة بالضرورة يجب أن يكون لها نموذج حضاري، وأن لا يكون هناك نظام للدولة يحكم فيه رجال الدين، والحديث عن العلمانية في المقابل هو حديث فيه كثير من الفجاجة، وهناك كثير من الناس يتحدثون عن العلمانية دون أن يدركوا ماهية العلمانية أو يكونوا قد اطلعوا على العلمانية كتجربة تاريخية ارتبطت بحقبة من حقب التاريخ الأوروبي التي لم تكن تعني بأي حال من الأحوال نفي الدين عن الحياة العامة، والعلمانية كانت تعني - إلى حد - فك الارتباط ما بين الكنيسة والدولة، وليس صحيحا فك الارتباط ما بين الدين كقيم وتعاليم ومكارم أخلاق والحياة العامة، وبالتالي المقابلة في تقديري فيها كثير من التبسيط والفجاجة ما بين نموذج يقوم على الدين ونموذج علماني، لا يوجد نموذج علماني خالص لا علاقة بالدين به، وفي نفس الوقت لا نعني بالدين أن نعيد إنتاج سلطة دينية مستبدة باسم الله، وفي كثير من الأحيان نستخدم هذه الشعارات للتخفي حولها بما يستر عورة إخفاقاتنا وعجزنا كنخب، الدولة تريد قيادة سياسية فنية بحيث تستطيع أن تبني نفسها وتوفر الخدمات الأساسية للمواطنين في مختلف مواقعهم، وهل هذا يحتاج إلى دولة دينية أو علمانية؟ توفير الخدمات الأساسية للمواطنين وإتاحة الفرص لهم وتوسيع الانفتاح نحو العالم هذه جميعها لا علاقة لها بأي نموذج، هناك نموذج في تركيا وماليزيا والهند والصين والغرب الأطلسي في أوروبا وأمريكا كل هذه النماذج حققت مجتمعات يتمتع فيها المواطن بالكرامة. { حسنا، في ظل هذا الجدل برأيك ما هو أنسب نظام لحكم السودان؟ - أنا أميل إلى فكرة الدولة الوظيفية، وهذه ليست نموذجا عقائديا يقوم على إعلاء المفاهيم التجريدية بل يقوم على طرح الفكر التطبيقي ويحول هذا الفكر التطبيقي إلى نماذج عملية تمشي بين الناس، وبالتالي يمكن أن نسائل المسؤول بدل أن يبيع لنا الشعارات ونعيش حالة من الدوخان (دوخان الشعارات) يجب أن تكون العلاقة التعاقدية بين المواطن والحاكم علاقة قائمة على برنامج ذي طبيعة عملية قابل للحساب وقابل للمساءلة إما أنجز هذا البرنامج واحتفظ بثقة المواطنين أو فشل في تحقيق هذا البرنامج العملي التطبيقي وبالتالي يخسر الحاكم ثقة مواطنه الذي قد زكاه لموقعه. { مثل هذه الدولة هل هي موجودة في تاريخ العلوم السياسية؟ - نعم موجودة في التاريخ الإنساني الحالي، وذكرت لك في السابق النموذج الماليزي على أيام (مهاتير محمد) الذي طرح برنامج سمته الدولة (ماليزيا عشرون عشرون) والفكرة هي أن ينتهي المشروع بانتهاء العام العشرين، وبالتالي أصبحت هناك دولة لديها وظيفة هذه الوظيفة هي أن تنفذ هذه الخطة التي هي ليست تجريدا وإنما هي جملة مشروعات محددة. { برأيك ما هو الدستور الذي يتناسب مع واقع السودان المتعدد؟ - هذا سؤال كبير أنا لا أستطيع أن أجيب عليه لأنه ليس مهمة فرد وليس من نوع الأسئلة التي تتم الإجابة عليها بنقاط، لكن ما أستطيع أن أقوله يجب أن نتفق على أننا بحاجة مؤكدة كدولة جديدة إلى دستور ونحن لسنا جمهورية السودان القديمة بعد انفصال الجنوب هناك حاجة إلى أن يكون هناك دستور جديد للدولة الجديدة، والحديث عن مشروع وطني نستطيع أن نتجاوز به الأعراض المرضية وجراحات الفترة الطويلة من الحكم الوطني الممتدة إلى هذه اللحظة، ويمكن أن نتخذ من الدستور مركبة تقودنا إلى رسم ملامح هذا المشروع، وبدلا عن الحديث عن حكومة قاعدة عريضة تنتهي بنا إلى حكومة قسمة حظوظ سياسية داخل هذه النخبة الوطنية وبدلا عن الحديث عن قسمة السلطة التي تمضي في نفس الاتجاه أو قسمة الثروة التي يمكن أن تنتهي في أحسن حالاتها إلى توزيع الموارد الوطنية بين النخب بالحق أو بغير الحق، ينبغي أن نجعل من مشروع إعداد دستور جديد مناسبة وطنية لتشكيل ملامح مشروع وطني للمستقبل وأن يكون الدستور هو المخطوطة التي تمثل العقد الاجتماعي الوطني الجديد لوطن جديد. { ما هو المطلوب لتجاوز الاستقطاب الأيديولوجي الذي تسبب في كثير من الصراعات الموجودة حاليا في السودان؟ - تحدثت عن مطلوبات في البداية، لكن واضح أننا بحاجة أن نجري مراجعات كبيرة لتحديد ما هي المهام الوطنية المطلوبة، ونتجاوز شراهة النخب وأنانيتها إلى البحث عن حظوظ الشعب عامته قبل نخبته، ونرفع من درجة الالتزام والمسؤولية العامة لدينا كأفراد وخاصة كنخب متعلمة، ونؤسس حالة وطنية تقوم على أولوية بذل الجهد بدلا عن (الاستهبال والبلطجة والانتهازية) واللجوء إلى الابتزازات السياسية لتحقيق حظوظ خاصة، ونستفيد من التجارب الإنسانية، ويجب أن لا ننظر إلى السودان باعتباره جزيرة معزولة عن محيط الإنسان، بحيث حينما نشرع في تأسيس مشروعنا الوطني الجديد أن لا نعيد إنتاج أخطائنا. { الوطنية.. هناك مطلوبات لزيادة ترسيخها في النفوس.. هل تتوفر الآن؟ - كلما عجز الوطن عن تحقيق رضا المواطن قلت حصيلة مستودع المواطن من الوطنية وكلما صار المواطن أقل وطنية، وبالتالي يمكن أن تصل إلى مرحلة يكون المواطن فيها محايدا تجاه الوطن. { الهوية السودانية لا زالت في موضع جدل عميق..؟ - الهوية نتيجة وليست قرارا، وهي تتشكل عبر الوقت من خلال عمليات التفاعل الثقافي وتسهم الدولة باعتبارها ماكينة المجتمع جميعه بشكل تلقائي في التشكيل المستمر لملامح الهوية، صحيح هناك بعد للهوية نتوارثه عن الأسلاف لكن هناك الإضافات التي نحققها نحن وكذلك الأجيال القادمة في المستقبل، الهوية لا ينبغي لها أن تكون موضوعا للصراع، صحيح هناك مدارس في علم السياسة وفي السياسة الواقعية تطرح فكرة الهوية كمدخل ابتداء لكن في تقديري أن هذه ليست هي البداية الصحيحة وهناك ما هو متوراث من مكونات الهوية وهناك ما نضيفه، ولن يضر عملية الهوية كثيرا أن نراها تتشكل من خلال الحركة اليومية والتفاعل اليومي للثقافة ولمختلف العوامل الأخرى المشكلة للهوية، ولا توجد أيديولوجية جامدة تطلق وتطرح موضوع الهوية باعتبار أن الهوية نقطة بداية، والصحيح أن الهوية عملية مستمرة من الأصل. { لكن نجد أن الأحزاب السياسية دوما متهمة بتعميق صراع الهوية؟ - أنا أظن أن الصحيح هو أن السياسات الخرقاء هي التي تنتهي بنا أحيانا إلى جرد الحسابات القديمة، ويلجأ البعض إلى رفع راية الهوية واعتبار أن هناك صراع هوية، ونجد أن الجميع يعيشون في إلفة واضحة الملامح ولا يطرحون سؤال الهوية إلا حينما تفشل السياسات في أداء الوظيفة المنوطة بها تجاه الوطن. { أطروحة (الهامش والمركز) ترى أن الصراع في السودان بين مركز قابض على السلطة وهامش.. كيف تنظر إلى هذه الأطروحة؟ - هي أطروحة قديمة نسبيا أنتجت في فضاءات أخرى قبل أن تطرح لدينا بهذه القوة، وهذه الأطروحة بدأ طرحها من قبل علماء الاقتصاد السياسي أول العهد في أمريكا الوسطى واللاتينية وقليلا قليلا بدأت تنتقل مع تيارات اليسار الجديد إلى أقاليم أخرى من العالم حتى جاءت إلينا وأسهم بعض مفكري الإقليم العربي الأفريقي في تطوير هذه الأطروحة، ولكن مع وجود ملامح مؤيدة لفكرة ما سميته جدلية المركز والأطراف إلا أن هذه النظرية تحتاج إلى مزيد من التأهيل، ولا يمكن الحديث (خطيا) عن مركز مقابل أطراف وهناك مركز كامل وهناك أطراف كاملة، المركز أحيانا يحمل في جوفه أطرافا والأطراف نجد فيها المركز والأطراف، توصيف جدلية المركز والأطراف على أساس جغرافي سياسي يبدو ضعيفا من الناحية الفكرية، وربما احتجنا إلى أن نتحدث عن مركز وأطراف وفقا لأسس ومعايير سياسية اقتصادية اجتماعية بدلا عن تأسيس الفكرة على أساسها الجغرافي السياسي. { تحالف (كاودا) الثاني قال إنه يسعى إلى تغيير الحكم عبر كل الطرق بما فيها العسكرية.. كيف تنظر إلى هذا التحالف؟ - أنا أتصور أن أحد أهم أسباب الحالة الوطنية الراهنة بملامحها المميزة من التأزم السياسي هو الذي أدى إلى الفقر الاقتصادي والتأزم الأمني، واللجوء المتكرر لحمل السلاح كوسيلة وسبيل للحصول على الحقوق المهضومة، ويجب أن نلاحظ أن اللجوء لهذا الخيار يعني مزيدا من الاستنزاف، وما يمكن أن أقوله للإخوة الذين يستسهلون حمل السلاح إن هذا السبيل ليس هو الأفضل المتاح لاسترداد الحقوق المهضومة، وينبغي على الدولة من خلال نظامها الحاكم أن تبذل مزيدا من الجهد بما يحول دون لجوء بعض من يفكرون في حمل السلاح تحت ضغوط الإحباط واليأس وخيبات الأمل دون أن يستسهل هؤلاء عملية اللجوء إلى حمل السلاح باعتبار أن ذلك هو السبيل الأفضل لاسترداد الحقوق، وبالتالي أنا أتصور أن الإخوة في تحالف (كاودا) إذا مروا في هذا الخط سيقودون إلى المزيد من هدر الموارد وإلى مزيد من ترسيخ الانقسام داخل الجماعة الوطنية الواحدة وسيقودون إلى مزيد من تعطيل عجلة النمو الاقتصادي للوطن.. { كيف تقرأ ربيع الثورات العربية.. وهل يمكن أن يصل إلى السودان؟ - أنا في تقديري أن هذه هي حالة تضرب في كل الإقليم العربي وربما انتقلت من بعد إلى الإقليم الأفريقي جنوب الصحراء، وهذه الحالة ليست مستحدثة تخص فقط الإقليم العربي وقد شهدت أوروبا الشرقية في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات حالة مماثلة، وسبق أن تمت محاولة مثل هذه في أمريكا اللاتينية والمحيط الآسيوي الكبير وانتهت إلى بناء أوضاع قائمة على الاستقرار السياسي، وأنا أتصور أن ما يجري الآن من ما يسمى بالربيع العربي هي حالة ضاربة ربما لن تستثني أحدا وقد يختلف التعبير عنها من وطن إلى آخر ومن بلد إلى آخر، لكن ليس منظورا أن يسلم من تأثيرات هذه الحالة بلد من بلدان الإقليم بما في ذلك السودان. وأرجو أن لا نحتاج إلى اندلاع ثورة لأن الحالة السودانية لا تخلو من هشاشة ولأن المجتمع السياسي السوداني صار مجتمعا مسلحا ولأن هناك انقساما على خطوط جهوية وعرقية وحزبية في الحد الأدنى وكل هذه العوامل من شأنها في حال لجوء الشارع إلى الاحتجاج على طريقة ما رأينا في الربيع العربي يمكن أن يقود إلى نتيجة ذات كلفة عالية جدا ربما لا تستطيع الحالة الوطنية الراهنة أن تدفع فواتيرها.