{ نداء يُثير الدهشة ويفتح باباً كبيراً للهواجس والتساؤلات، وأعني ذلك النداء الذي أصدرته مؤسسة الأزهر الشريف عشية الجولة الأخيرة من الانتخابات المصرية، وهو يطالب الناخبين المصريين بألا تكن ممارستهم للانتخابات على أساس «الدين» ولكن فلتكن على أساس «الأمانة والأخلاق» ومبعث الدهشة هو أن راعي الضأن في البوادي العربية كلها يُدرك بأن الأخلاق لا تعني شيئاً غير الدين، وذلك لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إنما بُعثت لأتمِّم مكارم الأخلاق»، فضلاً عن الأمانة التي هي الدين ذاته، وذلك لقول الحق تبارك وتعالى «إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً». ويفترض أن الأزهر الشريف، المرجعية الدينية المصرية التاريخية، يفترض أنه يحرِّض الناس على اختيار «القوي الأمين» ممن تُرضى أخلاقه ودينه، انتخاب على أساس الدين ولا شيء غير الدين، فالنائب الذي يُضيع صلاته على سبيل المثال، فهو لما سواها من الشرائع والتكاليف أضيع...والخ، ولست هنا بطبيعة الحال بصدد أن أعطي درساً للأزهر الشريف، ولا ينبغي لي، فالأزهر الشريف يعلم الذي قلت والذي لم أقل، فلم يكن الشعب المصري وحده هو الضحية على عهد المخلوع مبارك، فحتى المؤسسات الدينية قد تم استغلالها وتوظيفها من قِبل النظام السابق، فرجل الأزهر الشريف هو بقية مما ترك آل مبارك، والمؤسسة العسكرية كذلك، وأغلب الظن إن تمريرات غير محكمة من المجلس قد دفعت باتجاه المؤسسة الأزهرية لإصدار مثل هذه النداءات لعلها تشكل عبئاً على «الطيارات الإسلامية» وتشل من حركتها، فالإسلاميون بمختلف مسمياتهم هم من يسيطر حتى الآن على المشهد الانتخابي المصري، وذلك في تراجيديا الدين مقابل الدين، والتذكير بأن الدين في مصر هو الأزهر وليس «الطيارات الإسلامية». { ويفترض أننا كأمة، أمة ما بعد الربيع الإسلامي الذي يسيطر على كل المنطقة وكل المنطق، يفترض أننا قد تجاوزنا تلك القيود اللئيمة التي تحظر «الأحزاب الإسلامية» وتحظر كل أدبياتها وآلياتها، فعلى الأقل أن العالم الآن يشهد مرحلة كساد النظرية الرأسمالية وتساقط مؤسساتها، وقد شهدنا من قبل انهيار النظرية الماركسية، وأظننا والحال هذه أننا نعيش بامتياز مرحلة طرح شعار «الإسلام هو الحل» هو البديل وهو المخرج، في الاقتصاد، سيما وأن مصارف عديدة في أوروبا قد اضطرت لفتح «منافذ إسلامية» جنباً إلى جنب مع المنافذ التقليدية، بل أن بعض النخب العربية لم يمنعها الحياء من الإشارة إلى أن النظام الاقتصادي الإسلامي ربما يكون هو الأمثل، وكذلك في الاجتماع والعلاقات الإنسانية. فعلى الأقل إن أخطر وباء يهدد العالم الآن، أعني وباء الإيدز، قد وجد الغرب أن أنجع عقاقيره ومضاداته هي «الأخلاق والمُثُل» وغيرها من المقاصد الشرعية العديدة التي يمكن أن تضع خارطة طريق لهذا العالم الحائر. { إنه الدين الذي يناهضه الأزهر الشريف في عقر دياره بالشرق الإسلامي، الأزهر يطالبنا بألا نختار على أساس الدين، بحيث أننا لا نستطيع أن نقدم الإسلام للآخرين ما لم نرسخه في مؤسساتنا الدينية نفسها، فيمكن، والحال هذه، أن يقول قائل «إن القول ما قال به الأزهر»، إخراج الدين من السياسة. { يبدو أن أمام «الطيارات الإسلامية» المصرية الكثير الذي يجب أن تفعله، وعلى رأس هذه المهام «عمليات أسلمة المؤسسات الدينية» نفسها. فرجال «دين الأمس» الذين يباركون كامب ديفيد ويحاربون حماس ويحاصرون غزة، ليس هم بطبيعة الحال، هم رجال الغد، رجال «الطيارات الإسلامية». { وربما لا يصدق الكثيرون بأن (علمنة الحياة ولبررتها) قد وصلت المؤسسات الدينية نفسها، ويذكر الكثيرون أن «رجال دين مبارك» قد أجازوا في فترة سابقة «عمليات الفائدة» المصرفية، وحللوا الكثير، وأحلوا قومهم دار البوار. إذن.. أمام «التيارات الإسلامية» كثير من العقبات والمهام التي من بينها تحرير «الأزهر الشريف» نفسه من قبضة الليبراليين.. والله ولي المتقين.