(الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية) محض عبارة رسخت مفهوما طيبا وسط السياسيين، ولكن للمفارقة من الحب ما قتل، والقتل هنا قد يجسد حالة نادرة الوجود بدت شاخصة أكثر عندما وقع الرئيس الأسبق جعفر نميري قرار إعدام بعض قادة انقلاب (19) يوليو (هاشم العطا) (وفاروق حمدنا الله) في الوقت الذي كانت دموعه في محاجرها تقاوم السقوط، نميري الذي حاصرته الذكريات أوجز ذلك المشهد المأساوي على طريقة (انتحار العشاق)، الساسة هنا في بلادي رحماء في ما بينهم وقساة عندما يحكمون أو هكذا يتراءى للبعض، ولكنها رحمة في مواجهة الوقائع تبدو محيرة إلى درجة الإرباك، وبالرغم من أن هذه المحاولة تتقصى عاطفة الساسة عندما يقتربون من إنسانيتهم، ويلامسون مواضع الضعف لدى رفاقهم فتغلب الصداقة والعاطفة أحيانا على الطموحات الذاتية، إلا أن (عاطفة البشر كلما سيست اُبتذلت) هكذا وصفها أحد الكتاب الروائيين، ذاكرة الصحفيين (وكاميراتهم) لا تزال تحتشد بتلك الصورة النادرة، رؤساء الأحزاب الكبرى يجلسون على منصة واحدة، (الصادق، الترابي، نقد) ويتبادلون (القفشات) والضحكات الملونة، وهم نفسهم بالإضافة إلى السيد محمد عثمان الميرغني قد جمعتهم (زنزانة) واحدة في بداية انقلاب الإنقاذ، وكان الترابي خير من جسد وقائع (الخديعة) بمهارة يحسد عليها في ذلك الوقت، فهل كانوا على قلب رجل واحد أم أن البعض يدس (خنجره) في الظلام، وهل هي حميمية السودانيين أم أنها مبادئ الديمقراطية المتحكمة في أمزجتهم «قد نختلف ولكنني على استعداد للموت من أجل أن تقول رأيك»! (1) أمس الأول ترجل إمام الأنصار ورئيس حزب الأمة القومي السيد الصادق المهدي من سيارته ودلف نحو بيت سكرتير الحزب الشيوعي محمد إبراهيم نقد، كان نقد طريح الفراش بمنزله في حي الفردوس والعرق يبلل شعره الأبيض الجميل بعد أن أجريت له عملية جراحية في القلب، الإمام الذي اشتهر بنزوعه الإنساني كان يعاود (مريضا) هو رفيقه في النضال والأحراش والسجون، ومناهضة النظم الشمولية أيضا.. زعيم الأنصار بعاطفة رقيقة طبع قبلة على رأس سكرتير الحزب الشيوعي واحتضنه بمحبة فبكى الأخير وسالت مشاعره على جلباب الإمام الذي حاول تحريض صديقه على مقاومة اعتقال المرض بأن أهدى إليه كتابا من مؤلفاته العديدة وقد قطع الأستاذ نقد وعدا للإمام الصادق بأن يسعى جاهدا ويغالب فتور وإعياء المرض بالاطلاع على الكتاب، واستمر الإمام الصادق في إرسال سيل من دعاباته وهو يذكر نقد بسنوات الاعتقال ويقول إن من صبر على الاعتقال سوف يصبر على المرض وداعبه أيضا قائلا له: «أنت أصغر مننا يا أستاذ محمد وما تفتكر إنك عييت لأنك كبرت». لم يرفع الستار هنا والصادق المهدي ينصح الطبيب المداوي بالاهتمام وتكثيف العناية الطبية لنقد وإنما شن هجوما على نظام الإنقاذ ووصفه بأنه اعتدى على هذه المعاني النبيلة واعتمد على نهج التمكين وإقصاء الآخر وليتهم يتجاوزون ذلك وهذا البلد لا يمكن حكمه إلا إذا تشرب حكامه بهذه القيم وسلكوا نهج التواصل مع الآخر برأي محترم وتقدير» على حد قوله. (2) الصادق المهدي الذي اشتهر بترديده لبيت شعر عربي قديم «إِذَا احْتَرَبت يومًا فسالتْ دِمَاؤُهَا تذكرت القُرْبَى فَفَاضَتْ دُمُوعُهَا» ليس وحده وإنما ذات يوم من خريف العام (2009) احتشد عدد من قادة تحالف المعارضة في قرية طيبة الشيخ عبد الباقي لمخاطبة المزارعين المحتقنين وإيقاد شمعة الانتفاضة الثالثة في أرض المحنة، وبينما كان عراب الإنقاذ وزعيم الإسلاميين الدكتور الترابي يتحدث في تلك الندوة بحماس مهول، فجأة أصابه الإعياء وكاد يغمى عليه في المنصة لولا محاولات جرت لإنقاذه من حالة (الهبوط) الحاد الذي أصابه جراء سخونة الجو، في تلك اللحظة بالذات تجلى في عيون الحاضرين (ذعر) وقلق شديد ولهفة، فانتصبت الدكتورة مريم الصادق وطالبت بإحضار (قطعة جبنة)، ونهض أزرق طيبة من سجادته وهو يغالب مخاوفه ويطالب بإفساح المكان من التجمهر ليستنشق الترابي هواء طريا، (أزرق طيبة) بالرغم من اختلافه الفكري مع الترابي إلا أن مودة خاصة تربطه بالرجل وذكريات شاخصة لم ينطفئ بريقها منذ (فوران) ثورة أكتوبر. (3) مستوى التقارب بين الحزب الشيوعي والمؤتمر الشعبي الذي وصل مرحلة التنسيق الكامل لإسقاط (المؤتمر الوطني) ينظر إليه المراقبون من زاوية مختلفة، واحدة من تلك الزوايا هي (مهر) الصداقة التي تجمع بين (الترابي) و(نقد) باعتبارهما (أولاد دفعة) وتاريخ تتقاطع فيه الأنسجة الحية بينما تجري في ذات الأنسجة دماء وذكريات (ويوتوبيا) تنصهر بذات المعاني، ولكن ثمة واقعة أخرى في ميدان آخر تجسد حالة (المودة) الباهرة وسط السلفيين، فعندما توفي رئيس جماعة أنصار السنة المحمدية - جناح المركز العام - شيخ الهدية، هرع زعيم الجناح الآخر الشيخ أبوزيد محمد حمزة نحو المشيعين ونزل إلى أعماق القبر بعد أن صلى على الجثمان وهو يغالب دموعه، ومن ثم بكى ولعن الشيطان وطلب المغفرة من الله، وشدد على ضرورة تجاوز الخلافات وتحقيق وحدة أنصار السنة لصالح الدعوة، ومضى أكثر من ذلك مفجرا عاصفة الأشواق وسط الجماعة عندما قال إنه لا يريد أن يستفيد من موت الهدية، فللموت رهبة قاربت الشقاق مع أن رياح الخلاف كانت أكثر عنفا وضراوة مما تسبب في تلطيف الأجواء وعبور مياه كثيرة للجسر بعد ذلك..!! بين أنصار السنة، وأنصار الديمقراطية جرت تفاصيل حادثة مشابهة فعندما توفي الخاتم عدلان المؤسس لحركة (حق) ووري الثرى، تجلت مثالية قائد المجموعة المنشقة الأستاذ الحاج وراق، وراق قرر بشكل مفاجئ الاستقالة حتى لا يستفيد من موت خصمه بالشكل الذي يمكنه من استقطاب المناوئين. (4) الاتحاديون مرت عليهم كثير من الفجائع ولكنها فشلت في نزع فتيل الخلاف إلا لماما، فعند موت الحاج مضوي وأحمد الميرغني، وموت محمد الأزهري بدأت تتماسك لحمتهم من جديد وقبل انتهاء مراسم الدفن تخلقت أكثر من مبادرة للوحدة الاتحادية ولكنها سرعان ما طمرت في (مقبرة) النسيان، في ذات السياق هنالك لحظات مؤثرة عايشها الكثيرون، واحدة من تلك اللحظات المرصودة عندما ذرف الدكتور (غندور) دمعة بسبب الانفصال، فتناسلت الأسئلة ساعتها هل هي دموع الفراق أم تراها شعورا طاغيا بالذنب لا أكثر؟ فكان هناك من يجيب بلا.. (الدموع كلها لونها واحد)! ملابسات تلك الحوادث نبشت (رفاة) المصالحة القتيلة بين بعض الساسة وجماهيرهم من تحت ركام التاريخ، فالسودانيون دائما وإن تطاول بهم الشقاق وفجروا في الخصومة بنهاية الأمر يتفقون، حتى دون سابق وعد، وإن تلاشت تلك اللحظات فحتما هناك لحظات أخرى، قد تتجدد بمرض أحدهم أو بموت آخر، أو زواج ثالث.. فتفضح قسوتهم الدموع وغبنهم المصطنع. قسط من ذلك الحنان السياسي المفقود احتوته ثورة حميد على ما اصطلح على تسميتهم بتجار الحرب فخرج للناس بأشعاره وشعاراته الجديدة ( أرضا سلاح، وينفتح باب الصلاح، ينفرج هم القلوب، تتندى بالأمل الجراح) وإن كان سيل ردود الأفعال نحو ذلك الديوان لم ينقطع ما بين الرافض والمؤيد للدعوة التي وصفها البعض بأنها رومانسية تطفح في واقع (قذر).