والسودان يحتفل هذه الأيام بالعيد السادس والخمسين لاستقلاله، فأي حزب أو أي حكومة - طوال سنوات الاستقلال - كانت مبرأة كالملائكة، من أي أخطاء في حق الوطن السودان، الذي لم يكن استقلاله منحة أو هدية من أحد، وإنما هو ثمرة تضحيات بالدماء والأرواح والسجون والاعتقال، على مدار ستين عاماً تحت وطأة استعمار أجنبي يملك السلطة والصولجان. ألا يقتضي الاحتفال بذكرى هذا اليوم الخالد قيام النخب السياسية بكل ألوان طيفها بنقد ذاتي شجاع، على رؤوس الأشهاد بكل أخطائها - كبيرة كانت أو صغيرة - تصحيحاً لمسيرة الوطن يفتح صفحة جديدة، تترك وراءها عقابيل الماضي وصراعاته، التي أعاقت مسيرته على طريق التغيير الحقيقي، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً. فقد أسهمت هذه النخب بضلع وافر في أزمات البلاد المتلاحقة منذ الاستقلال حتى الآن، ومن أمثلة ذلك: - إهمال الريف السوداني دون انتشاله مما هو فيه بالتنمية في كافة ميادينها الزراعية والصناعية والخدمية، مع أن هذا الريف السوداني هو مصدر ثروات السودان التي لم تُستغل كما ينبغي. - انشغال النخب السياسية بالشعارات والنظريات التي لا تمت لواقع الناس المُعاش مما ترتب عليه خلق هوة سحيقة بين الريف وبعض الحضر. - الانقلابات العسكرية التي لم تكن تنشأ من فراغ وإنما تهيأ لها أفضل مناخ للاستيلاء على السلطة في محاولة لتقديم بديل أفضل بحسب تصورها، خاصة أن من بين أسبابها سوء أحوال القوات المسلحة وهي تخوض أطول حرب شهدتها إفريقياً، في مواجهة تمرد يُحظى بالدعم الخارجي ومساندته في المحافل الدولية. وهذا قليل من كثير في هذه العجالة، في فلك انعدام التنمية الحقيقية. والغريب أن بعض هذه النخب السياسية ظلت - خلال السنوات الأخيرة - تطرح شعارات مثل محاسبة ومعاقبة سائر من أسهموا في تخريب البلاد منذ الاستقلال حتى الآن، وكأنما لم تكن مشاركة في هذا الخراب وعلى رأس أسبابه عدم تركيزها على حقيقة التنمية الشاملة، ودورانها في محور الصراعات السياسية المجردة. ومن هذه النخب من طرحوا شعار المصالحة والتصافي تأثراً بتجربة جنوب إفريقيا، ولكنها في نفس الوقت تناقض نفسها بطرح شعارات عدائية لا تساعد في تهيئة مناخ حقيقي للمصالحة والتعافي. ومن بين هذه النخب من ظلت سياستهم الثابتة التشهير والسخرية بكل مشروع حكومي تنموي تحتاجه البلاد، مثل قيام خزان الرُّصيرص على مستوى خزان سنار الذي أنشئ على عهد الاستعمار البريطاني، ومثل استخراج النفط وتصديره، ومثل التوسع في التعليم العالي، ومثل بناء طرق المرور السريع، وكان أهمها طريق الخرطومبورتسودان، ومثل التأمين الصحي وإن كان يحتاج إلى المزيد من التوسع في خدماته.. وإلى آخره. وهذه النظرة لا ترى إلا المثالب وكل ما هو أسود. ولكن بصرها لا يمتد إلى أهمية النضال في سبيل مزيد من المؤسسات التنموية والخدمية ودعوة الجماهير للقيام بدورها وهي صاحبة المصلحة الحقيقية في ذلك، لا أصحاب القدرات المالية، والإمكانات الدولارية التي تلبي حاجتهم الكمالية، ولأن السودان فوق الجميع فإن الحصار المضروب حوله الآن من جهات خارجية يقتضي - أول ما يقتضي - وحدة وطنية شاملة لحمايته من عواقب هذا الحصار، حتى لا يضيع وطن بسبب صراعات سياسية لا خير من ورائها. ولا شك أن مسؤولية هذه الوحدة تقع على عاتق من بيدهم السلطة والقرار فهل تفعل ذلك بمبادرة حقيقية قبل غيرها؟ حتى لا تقع الفأس على الرأس؟ ومن هنا ما أشد الحاجة إلى المصالحة وإلى التصافي وإلى النقد الذي في تقديمه كل النخب السياسية سواء في الحكومة أم في المعارضة، هدية للسودان وشعبه في ذكرى الاستقلال، وتكريماً لأرواح الشهداء الذين ضحوا من أجلنا.