منظمة حقوقية: الدعم السريع تقتل 300 مدني في النهود بينهم نساء وأطفال وتمنع المواطنين من النزوح وتنهب الأسواق ومخازن الأدوية والمستشفى    وزير الثقافة والإعلام يُبشر بفرح الشعب وانتصار إرادة الأمة    السودان يقدم مرافعته الشفوية امام محكمة العدل الدولية    هل هدّد أنشيلوتي البرازيل رفضاً لتسريبات "محرجة" لريال مدريد؟    "من الجنسيتين البنجلاديشية والسودانية" .. القبض على (5) مقيمين في خميس مشيط لارتكابهم عمليات نصب واحتيال – صورة    دبابيس ودالشريف    "نسبة التدمير والخراب 80%".. لجنة معاينة مباني وزارة الخارجية تكمل أعمالها وترفع تقريرها    النهود…شنب نمر    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (ألف ليلة و....)    "المركز الثالث".. دي بروين ينجو بمانشستر سيتي من كمين وولفرهامبتون    منتخب الضعين شمال يودع بطولة الصداقة للمحليات    ندوة الشيوعي    "قطعة أرض بمدينة دنقلا ومبلغ مالي".. تكريم النابغة إسراء أحمد حيدر الأولى في الشهادة السودانية    د. عبد اللطيف البوني يكتب: لا هذا ولا ذاك    الرئاسة السورية: القصف الإسرائيلي قرب القصر الرئاسي تصعيد خطير    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    المرة الثالثة.. نصف النهائي الآسيوي يعاند النصر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ضد تكرار الرسوب فى هندسة بناء الأمة (5-4)
نشر في آخر لحظة يوم 28 - 12 - 2011

أضحئ سودان ما بعد إنفصال جنوبه كياناً مختلفاً عما كان عليه قبل ذلك وهذه حقيقة عبرعنها بعضهم وأسبقهم النائب الأول للرئيس بالجمهورية الثانية ، إستعارة من أدبيات السياسة الفرنسية . وبغض الطرف عن أى تحفظ يمكن إثارته حول مصطلح الجمهورية الثانية للتعبير عن الحالة السودانية وبعيداً عن الإصطراع حول الألفاظ ،فلا جدال أن القطر الجديد مختلف عن سابقه ليس فقط فى ما هو معلوم بداهة وقابل للقياس المنضبط مثل المساحة وحجم السكان بل أيضاً فى المعطيات السياسية ، الإقتصادية ، الإجتماعية ، الثقافية وغيرها التى تختلف التقديرات حولها و بسبب من إختلاف التقديرات حول هذه المعطيات من حيث درجة إتجاه تأثرها سلباً أو إيجاباً ، فإننا نلج مرحلة سودان ما بعد الجنوب بتباين واضح حول المرتكزات الدستورية والسياسية ، والثقافية للدولة الجديدة ولا يلزم المراقب رهق ليرصد من خلال الخطاب السائد إتجاهين رئيسين فى هذا الصدد . فالإتجاه الأول هو ذاك الذى يري أن إنفصال الجنوب قد وضع حداً للتذرع بالتعدد الإثنى والدينى والثقافى كقيد على الهوية العربية الإسلامية للسودان . ولعل أوضح تعبيرعن هذا الإتجاه ما كان قد ورد فى خطاب رئيس الجمهورية فى ديسمبرمن العام الماضى بمناسبة أعياد الحصاد بولاية القضارف والذى أثار حينه جدلاً واسعاً كما هو معلوم . أما الإتجاه الآخر فهو الذى يرى أن واقع التعدد ما يزال قائماً بالرغم من إنفصال الجنوب ويتعين التعاطى مع هذه الحقيقة فى الشأن العام . وبداهة فإن لكل من الإتجاهين مقتضياته على الأصعدة الدستورية والسياسية وما يتبعها . إن وجود هذين الإتجاهين يعنى أننا نقف مجددا على منصة تأسيس دولة السودان كما كان الحال غداة الإنفصال . ولئن إنتهت مسيرتنا الوطنية منذ الإستقلال إلى إنفصال الجنوب وذلك حصاد مر لخطايا سياساتنا فى مختلف مراحلها فحرى بنا أن نتجنب فى بناء الدولة الجديدة الإرتجالية التى إنتهت بنا لما أسميناه الرسوب فى هندسة بناء الإمة ،وكان ذلك عنوان لمقال نشرته لنا صحيفة الحرية عام 2002م . ولا سبيل أمامنا لتنجب الإرتجالية لتلافى المزيد من الإنشطارات التى ما تزال أخطارها محدقه . سوى إخضاع القضايا الجوهرية لحوار صادق وعميق عوضاً عن ترديد الشعارات المعممة والمسلمات الإعتباطية التى ما أغنت عن الحق شيئاً بدليل المال . ولأجل هذه الغاية تأتى هذه السلسلة من المقالات التى نطرح فيها رؤى عامة حول بعض القضايا التى نحسبها محورية على أمل أن يتم حولها حوار جاد تفصيلاً لما يجمل وتقويما لما يطرح من آراء .
ومتابعة للحديث حول قواعد بناء دولة ما بعد إنفصال الجنوب نتعرض فى هذه الحلقة للمسألة الإقتصادية والتى لا شك فى أهميتها البالغة على هذا الصعيد . أجل لقد لعب العامل الإقتصادى عبر التاريخ ولم يزل دوراً محورياً فى الصراع الإجتماعى داخل الأمة الواحدة و فى النزاعات بين الأمم تنافساً على الثروات والموارد . و بلغ هذا الدور حداً من التأثيردفع البعض لإعتبارهذا العامل القوة المحركة للتاريخ وعلى هذا إنبنت الفلسفة الماركسية . وإذ نؤمن فلسفياً بأن وعى وإرادة الإنسان هما العامل الحاسم فى مسيرة التاريخ ، فإن ذلك لا يقدح بحال من قناعتنا بالأهمية البالغة للعامل الإقتصادى الذى يؤثر وبقوة على وعى وإرادة الإنسان ولكن دون أن يبلغ ذلك درجة حتمية التحكم فيها . وإنطلاقاً من الإيمان بقوة تأثير العامل الإقتصادى فإن إدارة إقتصاد الدولة فى رأينا قضية إقتصادية وسياسية وإجتماعية وأخلاقية نظراً لتأثر كل هذه المجالات بموازين الثروة . ونحسب أن تأثير العامل الإقتصادى على المجالات المذكورة يزداد ويكتسب أهمية إستثنائية فى الدول ذات التركيبة الإجتماعية الهشة و التى لم تكمل طور الإندماج وهذا شأن السودان فى رأينا . وفى مثل هذه الدول يمكن أن يلعب الإقتصاد دوراً سالباً فى توسيع الفوارق والإنقسامات الإثنية و الجهوية وغيرها مثلما يمكنه لعب دورموجب فى إتجاه تقليص الفوارق والمساعدة فى عملية التكامل والإندماج ويتوقف الأمر فى ذلك على الفلسفة والسياسات التى تحكم وتوجه العملية الإقتصادية . ونحسب أن السياسات الإقتصادية التى إستدبرناها منذ عهد الإستعمار مروراً بكل أنظمة الحكم الوطنى قد عملت بدرجات متفاوتة فى توسيع الفوارق رأسياً بين الطبقات الإجتماعية وأفقياً بين القوميات والأقاليم المختلفة . وللتحقق من هذا الزعم نرى أنه يجدينا تقديم فذلكة تاريخية مختصرة لمسيرة إقتصادنا الوطنى ثم الوقوف ملياً عند حقائق الواقع لنرى تأثير ذلك سلباً أوإيجاباً على التماسك الوطنى والنسيج الإجتماعى .
فى السياق أعلاه فإنه من المعلوم أن ا لخطوات الأساسية الأولى على طريق تحديث الإقتصاد السودانى قد أتخذت فى عهد السلطة الإستعمارية التى إستقدمت مع مجيئها نظم الإدارة الحديثة فى شتى المجالات وشرعت فى إنشاء المرافق العامة وفق أولويات تناسب أهدافها .وفى الحقيقة فإن الإستعمار قد ورث واقعاً لا يخلو من التفاوت الإقتصادى سواء بين أقاليم السودان أو بين الشرائح الإجتماعية داخل الإقليم الواحد كنتاج لحراك الحقبة السابقة الممتدة فى عمق التاريخ . فمناطق الشمال الواقعة عل مجرى النيل والتى وجدت فيها حواضر الممالك النوبية القديمة ومناطق الوسط بين الحرطوم وسنار حاضرة السلطنة الزرقاء كانت متقدمة نسبياً فى مجالات الزراعة والتجارة والصناعة الحرفية على أقاليم الشرق والغرب والجنوب لأسباب تأريخية موضوعية . وقد دعمت مناطق الشمال والوسط تفوقها الإقتصادى فى العهدين التركى والمهدوى بحكم القرب من مركز السلطة . إن هذا السبق التاريخى عامل موضوعى يتعين أخذه فى الإعتبار عند الحديث عن التفاوت الإقتصادى بين أقاليم البلاد .وما يهمنا هنا أن السلطة الإستعمارية قد ورثت واقع التفاوت الإقتصادى وعلى ذلك شرعت فى التحديث مدفوعة بصورة أساسية بأولوياتها . وكان ضمن أولوياتها البديهية دعم قدراتها المالية بما يمكنها من بسط سلطانها . وقد مثل التوسع فى زراعة القطن رأس الرمح فى إستراتجية الإستعمار الإقتصادية لتحقيق هدفين هامين هما توفير عائدات مجزية لحكومة السودان وتوفير الخام لصناعة النسيج البريطانية . ولذا تم تسجيل شركة السودان الزراعية بلندن كشركة خاصة بدعم من الحكومة البريطانية لتكون أداة التوسع فى الزراعة عموماً وزراعة القطن على وجه الخصوص . وهكذا شرعت تلك الشركة فى إقامة مشروعات القطن بداية بمشروع الزيداب عام 1910م ليمتد نشاطها بعد ذلك فى الشرق بمشروع القاش فى العام 1914م والى جبال النوبة لزراعة القطن المطرى .وقد مثل عام 1925م نقطة تحول هامة ليست فى زراعة القطن فحسب بل فى تطور الإقتصاد السودانى وذلك بإكمال بناء خزان سنار إيذاناً بقيام مشروع الجزيرة والذى ظل منذئذ الى وقت قريب الداعم الرئيس للخزينة العامة . ومن ناحية أخرى فرضت الضرورات العسكرية والإقتصادية والإدارية على السلطة الإستعمارية الإهتمام بشبكة المواصلات وتحديدأً السكة حديد والتى ظلت منذ عام 1930م وحتى نهاية ثمانينيات القرن الماضى الرابط الأساسى بين أقاليم البلاد وواسطة النقل الرئيسية فيها . وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية رفعت السلطة الإستعمارية إهتمامها بتطويرالإقتصاد وتجلى ذلك بإدخالها لأول مرة فى تاريخ البلاد خطط التنمية فكانت الخطة الأولى فى الفترة 1946م 1951م والثانية فى الفترة 1951 -1956م وقد ركزت الخطتان على تطوير الجهاز الحكومى والمرافق الخدمية وإقامة مشاريع إنتاجية لدعم القدرات المالية للحكومة والتشغيل خاصة فى مجالى الزراعة والخدمات . وقد واكب القطاع الأهلى بدوره خطى التحديث مستفيدة من الجهد الحكومى فى مجال البنيات التحتية وخدمات التمويل . أكثر من ذلك إستفاد القطاع الأهلى من التشجيع والدعم المباشر من السلطة الإستعمارية لبعض الفئات وفى مقدمتها بيوتات القيادة الدينية والقبلية التى رأت إستمالتها سياسياً بالمصالح الإقتصادية من خلال إمتيازات الأراضى الزراعية والقروض والمنح المالية لإستثمارها .
ومهما يكن من شئ فيمكننا تحديد الصورة العامة للإقتصاد السودانى غداة الإستقلال فى كونها عبارة عن قطاع محدود يمكن وصفه بالحديث يشمل الزراعة المروية وعماده مشروع الجزيرة ، صناعة تحولية تساهم بحوالى 1% من الناتج المحلى ،نشاط تجارى داخلى يتمركز فى الخرطوم مع إمتدادات لحواضر المدريات وتجارة خارجية تهيمن عليها الحكومة والشركات الأجنبية ، جهاز مصرفى محدود و بنية تحتية فقيرة عمادها السكة حديد . والى جانب ذلك القطاع المحدود ساد القطاع التقليدى فى الريف السودانى العريض قوامه الزراعة المطرية والرعى . وبناًء على تلك الصورة يمكننا القول بأن الإستعمار خرج من البلاد مخلفاً فورارق إقتصادية يمكن وصفها بالمعقولة هى نتاج لما ورثه من الحقب السابقة ولمافرضته الظروف الموضوعية ذات الصلة بضرورات إستقرار سلطته وأجندته السياسية عامة . و نزعم أنه كان بالإمكان إنطلاقاً من الواقع الموروث من الإستعمار بناء إقتصاد وطنى متوازن يضمن الإستقرار السياسى والوئام الإجتماعى ولكن جرت الرياح بعكس ما كان مطلوباً . لقد تمثل أهم التطورات ذات الصلة بموضوعنا بعد خروج الإستعمار وفق ما نرى فى إنتقال السلطة السياسية وقبل ذلك بيرقراطية الخدمة العامة بسودنة الوظائف بصورة شبه كاملة لأيدى نخبة الشمال النيلى . ولقد لعبت أداة السلطة والخدمة العامة دوراً محورياً فى تشكيل واقع الثروة لالصالح القاعدة الإجتماعيةالتى تنتمى إليها النخبة المسيطرة وإنما لصالح شريحة محدودة منها . وكانت عاقبة ذلك ما نشهده اليوم من فوارق مريعة فى حظوظ الثروة أفقياً بين أقاليم وقوميات البلاد ورأساً بين الطبقات الإجتماعية . وقد ظلت هذه النخبة تلعب دورها فى تعميق الفوارق الإقتصادية بدرجات متفاوتة فى أنظمة الحكم المتعاقبة بثلاث طرق رئيسية . هذه الطرق هى أولاً التأثير على ملكية و توظيف عوامل الإنتاج كما حددها علم الإقتصاد ( الأرض . رأ س المال . العمل ) وثانياً تخصيص الموارد الحكومية من خلال الموازنة العامة للدولة وميزانيات الوحدات المستقلة وثالثاً السياسات المالية والنقدية التى تحكم وتوجه النشاط الإقتصادى . ولإستعراض وتحليل وقياس تأثير دور السلطة السياسية والخدمة المدنية فى تشكيل واقع الثروة منذ الإستقلال الى اليوم نرى من المناسب تقسيم هذه الفترة لجزأين . الأول هو الممتد من تاريخ الإستقلال الى قيام الإنقاذ فى العام 1989 والثانى منذ قيام الأنقاذ الى يومنا هذا . ويبرر هذا التقسيم ما نعتقد من حدوث نقلة نوعية فى دور السلطة فى توزيع الثروة فى عهد الإنقاذ .
بناء على التقسيم أعلاه وبالرغم من أن الفترة من 1/1 / 1956م -30/ 6/ 1989م قد تعاقبت فيها خمسة عهود ( ثلاثة أنظمة حزبية ونظامين عسكريين ) فقد ظل دور السلطة والخدمة المدنية بالطرق التى ذكرناها أنفاً متشابهاً ولا نقول متماثلاً . وقد عمل هذا الدور بوجه عام فى إتجاه توسيع الفوراق الإقتصادية أفقياً وراسياً . كان مرد ذلك فى رأينا لقصر النظر وسوء التقدير السياسى مقروناً بأطماع يمكن إعتبارها عادية وتحيز يمكن تفهمه . بتلك الأطماع وذاك التحيز تم تمكين أصحاب النفوذ والمحاسيب فى ملكية الأرض أوالإنتفاع بها سواء للإستثمار الزراعى أو الصناعى أو العقارى . لقد تواصل تخصيص الأرض الزراعية فى القطاعين المروى والمطرى والأراضى الصناعية والعقارية لأصحاب النفوذ والحظوة طوال هذه الفترة . وكان الأسوأ فى هذا الصدد ما حاق بأراضى الزراعة المطرية بالتوسع غير الرشيد فى الزراعة الآلية التجارية وبتجاوز الضوابط التى وضعتها السلطة الإستعمارية . ومن المعلوم عند الكثيرين أن الزراعة الآلية قد بدأت فى أربعينيات القرن المنصرم بمنطقة القدمبلية وقد حفزتها رغبة الحكومة الإستعمارية لتغطية النقص فى الحبوب الغذائية كأحد إفرازات الحرب العالمية الثانية . ومما يحسب للسلطة الإستعمارية وضعها لضوابط جيدة لهذه الزراعة كتحديد الحيازات ومراعاة مصالح السكان المحليين وتقنين إستخدام الآلات وإتباع دورة زراعية صارمة وكل ذلك للحفاظ على التربة والتورازن البيئى . ومن المؤسف أن يحدث بعد خروح المستعمر وخاصة منذ العام 1960م و تالياً إنقلاب فى هذه الضوابط كانت له آثار كارثية على المدى الطويل . فقد تكالب أصحاب النفوذ السياسى والإدارى وكبار التجار على أراضى الزراعة المطرية خاصة فى القضارف وجبال النوبة والنيل الأزرق وغيرها يستنزفون خيراتها ويهلكونها مع مرور الوقت . وكان الأثر الكارثى مضاعفاً فى المناطق المكشوفة من الحماية السياسية كجبال النوبة إذ لم تراعى هنالك مصالح المواطنين المحليين ولا إعتبارات صلاحية التربة وسلامة البيئة . تلك كانت ممارسة غذت مع غيرها المشاعر بالغبن لتنفجر لآحقاً تمرداً مسلحا . ولم يكن الإستحواذ على الأرض الصناعية والعقارية فى المدن بأقل منه على الأرض الزراعية .
وبالنسبة لرأس المال أحد عوامل الإنتاج الثلاثة كان من الطبيعى أن تستأثر به ذات الفئة التى هيمنت على الأرض مع غياب أدنى إرادة سياسية للتأثير على المعادلة فى إتجاه التوازن . فالتسهيلات الإئتمانية التى تقدمها المصارف وشركات توظيف الأموال تتطلب ضمانات التمويل من عقارات وإمكانيات مادية أخرى إلى جانب النفوذ . وهكذا فإن الذين إستحوذوا على الأرض من أصحاب النفوذ والثراء كانوا قادرين على الإستئثاربالتمويل أيضا . وقد أدى الإستئثاربالأرض ورأس المال وتضافره مع النفوذ السياسى والإدارى لتكييف الضلع الثالث لعوامل الإنتاج وهو العمل بحيث أصبحت الوظائف فى القطاعين الحكومى والأهلى سيما المرموقة فى قبضة المنتمين لذات الشريحة الإجتماعية.
وبالإضافة للتأثير على ملكية وتوظيف عوامل الإنتاج أسهمت السلطة فى تشكيل واقع الثروة من خلال تخصيص موارد الموازنة العامة للدولة وموازنات الوحدات الحكومية المستقلة بدون مراعاة التوازن فى مشاريع التنمية والخدمات . علاوة على ذلك فقد لعبت سياسات السلطة المالية والنقدية والرخص التجارية فى عهود سيطرة الحكومة على التجارة دوراً مهماً فى توزيع الثروة وتشكيل واقعها .
ونحسب أن نقلة نوعية قد حدثت فى دور السلطة فى توزيع الثروة وما يتصل بها من خدمات فى عهد الإنقاذ . فعلاوة على دورها التقليدى فى العهود السابقة فاقمت السلطة دورها فى توزيع الثروة وما يتصل بها فى عهد الإنقاذ من خلال برنامجين أساسيين هما التحرير الإقتصادى والحكم الإتحادى والعلة فى سوء تطبيقهما . لقد طبق ما سمى بالتحرير الإقتصادى فى مناخ وبكيفية كان لا بد أن يفضى معهما لتركيزالثروة بصورة غيرمسبوقة فى شريحة محدودة وإفقار القاعدة العريضة للمجتمع . وقد لعب كل من مفردات التحري الإقتصادى ( تحرير الأسعار ، رفع الدعم الحكومى ، الخصخصة و تحرير التجارة ) دوراً فى هذا الخصوص بصورة أو أخرى . فتحريرالأسعار لم ينزل بوطأته الثقيلةعلى غالبية المستهلكين من محدودى الدخل فحسب وإنما كذلك على قطاع المنتجين خاصة فى الزراعة والصناعة من خلال إرتفاع تكاليف مدخلات الإنتاج . فالمزراعين خاصة فى القطاع المطرى الذين تحملوا عبء إرتفاع تكاليف مدخلات الإنتاج بسبب تحرير الأسعار وإنفلات سعر الصرف ما كان بوسعهم تعويض ذلك بأسعار مجزية لإنتاجهم مع إلغاء أسعار التركيز وتركهم تحت رحمة القادرين على الوصول لنوافذ التمويل للمضاربة فى المحاصيل الزراعية بمعادلة أسعارمتدنية فى باب المزرعة عندما يكون المحصول فى أيدى المنتجين وأسعار مرتفعة عندما يتحول المحصول لأيدى التجار . وقد فاقم الوضع رفع الدولة يدها عن الخدمات الزراعية فى القطاع المطرى من إرشاد ومكافحة آفات وحماية التربة . وكانت المحصلة تدنى الإنتاج وتدهور البيئة وإعسار الزراع وبإختصار إفقار الريف العريض .وكذلك أثرت هذه السياسات بصورة بالغة على الصناعة خاصة الصناعات التحويلية بحيث أصبحت 80% من طاقة الصناعة تقريباً معطلة مع حلول الألفية الجديدة . أما الخصخصةالتى تمت فى مناخ عدم الشفافية والفوارق الإقتصادية فقد أدت عملياً لتحويل القطاع العام وهو ملك نظرياً على الأقل لمجموع الأمة ، الى ملكية خاصة للشريحة المحدودة الموسرة . وساهمت كذلك الإمتيازات و الإعفاءات والمحاباة فى العطاءات الحكومية فى خلق شريحة جديدة من الأثرياء من أصحاب الحظوة .
ومن ناحيته فإن تطبيق الحكم الإتحادى بنقل مسؤلية الخدمات الأساسية خاصة التعليم والصحة الى المستويين الولائى والمحلى فى ظل التفاوت الكبير فى المواعين الإيرادية بين الولايات كان نوعاً من تنصل الدولة من مسؤلياتها ونحراً لتك الخدمات فى الولايات الفقيرة . ولا يخفى أثر ذلك خاصة فى مجال التعليم حيث يصعب أن نجد واحداً من المائة الاوائل فى الشهادة السودانية خارج مثلث حمدى بينما كان يتزاحم طلاب الفاشر الثانوية وخور طقت وتلو ضمن العشرة الأوائل فى العهود السابقة .
وملخص القول أن السلطة فى عهد الحكم الوطنى عامة وفى عهد الإنقاذ خاصة قد لعبت دوراً محورياً فى تشكيل واقع الثروة وما يتصل بها من خدمات . ومن حقائق هذا الواقع البون الشاسع بين الأقاليم فى مجال التنمية والخدمات . ومنها كذلك المفارقة بين الثراء الفاحش لشريحة محدودة والفقرالمدقع للقاعدة العريضة الى حد حديث البعض عن تلاشى الطبقة الوسطى . ومن حقائق هذا الواقع كذلك أن الفوارق الإقتصاديةبين أقاليم البلاد والشرائح الإجتماعية تستبطن الفوارق بين الإثنيات والقوميات حيث الغالبية العظمى من الفئة الأشد فقراً من إثنيات بعينها . وقد أفرز هذا الواقع تقسيماً تلقائياً فى العمل إذ أصبحت الوظائف المرموقة فى قطاع الأعمال والمهن المرتبطة بالتعليم النوعى والوظائف المرموقة فى القطاعين الحكومى والأهلى مركزة فى قوى إجتماعية محددة والأعمال الهامشية فى قوى أخرى . وفى مثل هذا الواقع لا يمكن الحديث عن الؤئام الإجتماعى والو حدة الوطنية الحقيقية .وهذا الواقع لا يكمن تصحيحه إلا بتدخل واع ورشيد وحكيم من الدولة بسياسات مدروسة يتفق عليها وذلك ليس بعسير ما توفرت الإرادة السياسية .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.