ذهبت بخطوات متثاقلة نحو غرفتي الصغيرة التي دفنت فيها كل ملامح طفولتي.. ونصبت فيها ذكرياتي ملاذاً كلما عصفت بي الهموم.. وعلى الجدار تُعلَّق صورة كبيرة مزدانة بإطار موسم بالحزن.. في عينيها ابتسامة لم تُغيِّر ملامحها السنوات.. أحسست بقطرات حرى تنزل من عيني ساخنة بالجراحات.. إنها صورة والدتي «التاية عوض عثمان» التي رحلت وتركتني وحيداً أصارع الدنيا.. أكابد الهموم على قلق متعاظم، أجالد الصبر بدمعات أخفيها سراً وهي بالكاد تعطن في الحنايا والقلوب والحشا. تمر عليَّ هذه الأيام الذكرى الرابعة لرحيل الوالدة التي علمتني كيف أخبئ انكساراتي ووجعي داخل كبدي، وما أقسى أن تتجدد الأحزان كل عام.. وما أصعب الانتظارات وأنا افتقدها كل عام.. وأشتاق إليها كل عام.. أترقب الفصول وهي تلوِّن وجعي على المرارات.. أغسل حسراتي وأنا أحتمل التذكارات القديمة إلا ذكراها.. لم أستوعب بعد أن فراقها كان شجناً أبدياً .. ونزفاً مستمراً.. أمي الحنونة خرجت من عيون اللهفة ومن شراك الصمت.. أصبحت جبهة للشمس ونهراً من دم النخلات يهدر في العتامير اليباب. أغني.. وأحرق كل أوراقي.. انتظرها طيفاً يلمع في سماء ذاكرتي.. ولم تتبدد إلا جرحاً يطعن خاصرتي . لم تبارح مخيلتي.. مازلت أذكرها وأنا أركض في البيت الفسيح.. أذكرها حينما يهدني التعب فتهفو إليَّ مسرعة لتزيل عني كل لسعات الألم وضربات الشمس الحارقة. مازالت صورتها الوضيئة مُعلَّقة بغرفتي لأنني أدرك تماماً أنها جزء مني.. موجودة في أنفاسي في دمي.. في نبضات روحي.. وكلما أحس بوخزات الهموم.. أهرع إلى صورتها وأبكي أمامها أحس بها تربت على كتفي تضمني إليها يحنو .. يمزِّق كل حسراتي.. متفرد بصبابتي.. متفرد بكآبتي متفرد بعنائي.. شاكٍ إلى البحر اضراب خواطري فيجيبني برياحه الهوجاء ثاوٍ على صخر أصم وليت لي قلب هذي الصخرة الصماء لا أدري كيف أطارد نغم البوح وأنتِ بعيدة عني: لم أتذوَّق طعم الشاي في الصباح والعشاء في المساء وأنتِ لم تعدينه لي بشوق.. ولن تعدينه بعد!.. آه.. ما أقسى ذكرياتنا وهي مربوطة بالألم دوماً، فأنا أثقلت كفي الضراعات.. وهزمتني المواجع.. ودموعي عليها مازالت لينة. اللهم اغفر لها وارحمها وأدخلها مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.