للزمان تأثيره على كثير من العادات التي تضمحل ثم تندثر تدريجياً من المشهد المجتمعي.. بسبب عدة عوامل.. منها الحميدة ومنها السيئة التي يقضي عليها انتشار العلم وزيادة الوعي.. والمجتمع السوداني شهد طفرة توعوية بعد أن واكب تدفق المعلومة الصحيحة وتعامل مع آلياتها عبر الوسائط المتعددة مقارنة بالسنوات العشرين التي سبقت حلول الألفية الثالثة. { أوعا من الإسعاف..! في السابق كان كل الأطفال - بإيعاز من أمهاتهم - يخافون من مرور عربة الاسعاف «البرومن» أو «الكومر» الصغير أمام أعينهم..! وقبل أن يرونها ولحظة وصول صوت صافرتها المعهودة التي كانت حتى وقت قريب لا تتطابق مع صافرة عربة «النجدة»، فإن كل واحد منهم يقوم ب (قرص شحمة أذنيه) مستخدماً سبابتيه وإبهاميه معاً حتى تختفي عربة الإسعاف من أمامه، والأطفال هم يظنون - حسب ما تقول به الحبوبات في ذلك الوقت - أنه إن لم يقم الشخص بتلك الطقوس فإنه سيمرض أو يموت وستحمله عربة الإسعاف قريباً..! وحتى النساء - اللائي كُنَّ أكثر أمية وجهلاً - يقمن بقرص آذانهن حتى تدمي أحياناً خوفاً من إسعاف «الفلكسواجن» الذي يحمل المرضى والموتى من المستشفيات إلى منازل ذويهم ومنها إلى مقابر حمد النيل أو أحمد شرفي أو البكري في أم درمان أو فاروق في الخرطوم. { كمِّلوا المويه..! ومن العادات التي سادت ثم بادت الآن وأصبحت مجرد نكتة، أن ربة المنزل في حالة إرجاع الضيوف شيئاً من العصائر التي استقبلتهم بها في «الكبابي».. ترفع صوتها أعلى من درجة الترحيب بهم لحظة حضورهم صائحة: (عليكم الله كمِّلوا الموية عشان ما تبوِّروا لي بناتي)..! ظناً منها أن ما يتبقى في الكؤوس من عصير هو نذير شر من شأنه أن يبقي بناتها دون زواج داخل المنزل بسبب «الراجع» منه..! { عادات حميدة غير أن هناك عادات اختفت مبكيَّاً عليها، ونسأل الله أن يعيدها ويزيد الإيمان في قلوبنا جميعاً، ومنها الحرص من الأب عند آذان الفجر على إيقاظ أبنائه لأداء الصلاة وإن تكاسلوا وظلوا داخل «بطاطينهم» فإنه يحمل عصاه «الكريزة» ويجود لكل نائم بضربة خفيفة ولكنها موجعة في الرأس، فينهضوا ويؤدون الصلاة ثم يعودون إلى ما كانوا عليه. وأذكر أن أبي أطال الله في عمره كان يوقظنا أنا وإخوتي، فننهض غير أن واحداً منا كان يلتف على الزمر بأن يقيم الصلاة من داخل بطانيته دون أن يخرج ويؤديها «صوتاً» لسنوات..! ولم يشك والدي لحظة في أننا جميعنا كنا نصلي ولم يقبض عليه حتى كبرنا وأصبح من عباد الله الصالحين، ومازلنا نذكر فعلته غير أننا لم نكن نؤمن بالوشاية بالإخوان وإن أخطأوا، لجهالتنا آنذاك.