السفير السعودي لدى السودان يعلن خطة المملكة لإعادة إعمار ستة مستشفيات في السودان    مليشيا الدعم السريع تكرر هجومها صباح اليوم على مدينة النهود    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    شاهد بالصور والفيديو.. على أنغام الفنانة توتة عذاب.. عروس الوسط الفني المطربة آسيا بنة تخطف الأضواء في "جرتق" زواجها    المجد لثورة ديسمبر الخالدة وللساتك    بالصورة.. ممثلة سودانية حسناء تدعم "البرهان" وثير غضب "القحاتة": (المجد للبندقية تاني لا لساتك لا تتريس لا كلام فاضي)    المجد للثورة لا للبندقية: حين يفضح البرهان نفسه ويتعرّى المشروع الدموي    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    الناطق الرسمي للقوات المسلحة : الإمارات تحاول الآن ذر الرماد في العيون وتختلق التُّهم الباطلة    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    قرار بتعيين وزراء في السودان    د.ابراهيم الصديق على يكتب: *القبض على قوش بالامارات: حيلة قصيرة…    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    باريس سان جيرمان يُسقط آرسنال بهدف في لندن    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    صلاح.. أعظم هداف أجنبي في تاريخ الدوري الإنجليزي    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    المريخ يخلد ذكري الراحل الاسطورة حامد بربمة    ألا تبا، لوجهي الغريب؟!    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    بلاش معجون ولا ثلج.. تعملي إيه لو جلدك اتعرض لحروق الزيت فى المطبخ    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جَرائدُ نخلٍ رطبةٍ خضراء على قبر المرحوم الأستاذ إدريس عبدالحميد . بقلم: عبد الرحيم محمد صالح
نشر في سودانيل يوم 04 - 11 - 2011

كان أجداده من البدو القراريش الرعاة من أوائل ضحايا السكة الحديد ما أن أكتمل خط حلفا أبو حمد حتى استغنت الحكومة الاستعمارية عن خدماتهم في حراسة وترحيل الصادرات السودانية إلي مصر عبر طريق المحيلة فأرهقتهم العتامير بِحَرُورها وشمسها الحارقة ولَفْحُ سَمائِمها وهَجِيرتها وانهكتهم بقُرِّ الشتاء النافح وإِبْرِدَةُ الثرى وريح خَجُوج مَعاجِيج تثير تُراباً وفرناغات وأعفار تثير الجنّ وهي هُجُود. دَهَرَتهُمْ الدهارير ونازلتهم نوائب الدهر فاستقر جزءٌ كبيرٌ منهم في أطراف السليم وتخوم جزيرة أرقو.
قِيلَ سُمِيَ على إدريس عبد الحميد جدّه الأكبر. كان إدريس الجد الأكبر ولقبه دِرَفْسُ٬ ولعل معناها الضخم من الرجال٬ من أوائل الذين استقروا من البدو القراريش وودعوا حياة التجوال وامتهنوا الزراعة الموسمية مع قليل من الجمال والأغنام وقيل إنّه كان رجلاً زاهداً بما رزقه الله من الحلال لا يملك من الدنيا إلا نخلة "تسكنتة" عُرفت في كر علي شمّة بِ"تميرة أدريس "وامتاز بصدقه المعهود وإلفه الغير محدود كان يملك من الدنيا جريّب (زقِ صغير) معلق على سعفة جريدة نخلة التسكنته آنفة الذكر .لا احد يهتم بما في جراب الزهاد ولا أحد يعرف مابداخله ربما مِنْقاش نحاسي وعرق عقرب وباقي عطرون وتمباك أخضر وسكين ذراع بجَفيرها ومَسِلَّة وسلك طنبور مقطوع وتمبابتين! وفوق زهده وبدواته كان طمبراوياً حمحاماً ورائداً من رواد الكرير حتى أطلق عليه "تيس الداره" ومن أغانيه المعروفة "جنا الوزين يمدد في رقابو نضحك ونتبسط وكت الله جابو" وترنيمة أخرى يقول في مطلعها "يا شتيلة المشرق الفي رأس إيماني تموع في اللييد قبل تصل الصحاني" يرددها بشغف ونوستالجيا بعض كبارالسن فأنا وأندادي دون مقام التحقيق أو منزلة الشهود ،ويُقال إنّه كانت له "لوليحة" رأس مميزة عندما يشد وتر الربابة وينقرشها فينجذب ويغرق في الغناء فتغرق الدارة كلها معه .فكان يجد في الغناء والطنبرة راحة من رغاء النوق مَلِيلَة الإرْغاءِ وهدير هائج الجمال وثقاء الأغنام ونشول الدلو وملئ أحواض الأبل وغيرها من أعمال البدو الشاقة وبأسها ويرتاح من رائحة قْصَع الجِرَّة (بالكسر) والقطران ورشاش الإبل وزَبَدِها بالدُّهْن المُرَوَّح المُطَيَّبُ والمحلبية والخُمْرَةُ والطيب والخِضاب يشَمُّ عليه ريحَ عطروها لتطيِّب روائح بدنه بالبَخُور والعطور .قيل كان يتوسط الحلبة مع صفوف رجال في ثياب القنجة تصفَّق وتحمحم وتكُر ونساء في قرابيبها ومتلفحة بطرق الجوخ تَصْطَفِق وتطرب فتزغرد وسوط وِروير (وِلويل) يدعو بالوَيْلِ والثبور ورجال راكزة ثابتة مثل جبل الجِلِف يعلِّمون الصخور كيف يكون الثبات بطواقيهم الحمراء المقلوزة المشنَّقة بثبات لو اقتلعت عين أحدهم اقتلاعاً لما تَزَحْزَحَ ولا جفل.
وقيل سُمِيَ على إدريس ود جابر الكباشي صاحب الصهبة المزمومة والمهرة الملجومة المُخلد في أشعار الكبابيش ورواياتهم "ياحلبية بذرك عَيِّل [إدريس[ وكت شغّل أب عشرة الحديدا مِنيل خلّى الوالدة في الهبود تبيت وتقيّل" فلا غرابة أن يُسمي قراشيّ على كباشيّ فتربطهم الوشائج والنسب السَّرْو وسَخاء المُرُوءَة وتحكمهم قواعد المُلاوَمة بين المَلِيم والمَلوم والشكر والمعروف والمجازاة والثناء الجميل، فاعصوصَبوا وَوَشَّجَتهم قرابات النسب وحسَن الجِيرَةِ تَوْشيجا.
والده هو عبدالحميد علي العبيد المعروف بعبدالحميد ود علي شمّة (وعلي شمّة هو أخ جدي حمد شمّة) رأيته في البلد في صغري مرة واحدة والتقيته في منزل ابنه إدريس عدة مرات وحاولت أن أبني ثقة بيني وبينه لأساله عن بعض الحكاوي التي سمعناها ونحن أطفال عن ذكائه ودهائه وشقاوته ولكن أكتشفت إنّه رجل "حار" وصعب رغم البشاشة والطيبة التي تبدو عليه ولايحب الكلام عن الماضي فأذكر مرة سألته عن سبب تركه البلد فاسترجع الذاكرة وأجاب بجمل قصيرة وصوت خفيض وسريعا غيّر موضوع الكلام. فعرفت منه أنّ سبب سفره يعود إلى طموحه الكبير أن يكون رجلا ذا ثروة ومال وهذا مالم يحققه طوال حياته فسافر إلى أم الدنيا ولم ينجح في الالتحاق بسلاح الهجانة وما وجد وظيفة تناسب شخص مثله من أصلٍ بدويّ. فمثله لا يرضى العمل في البيوت فعاد بعد فترة قصيرة للعمل في شندي ثم عطبرة والخرطوم. غلبته طَمَحاتُ الدهر وشدائده فعاد إلى البلد مرة أخرى ولكنه بعد فترة قصيرة قرر ترك الحلة ورمالها وظلالها وسواقيها وترك حياة القواسيب والقساسيب والوراتيب والداوديب (جمع ديداب وهي من الدأْب) الرواكيب والدوانيب كما يقولون .ترك السواقى النايحة والقواديس التقالد الموية غادية ورايحة في قول شاعرنا السر عثمان الطيب بلد الخُبْز الخَمِير واللبَن الوفير إلى ودمدني ولحقت به زوجته وابناه في غربة دامت عقود حيث ما زال بعض أفراد العائلة يعيشون .وسألته مرة عن كيف خدع ومقلب زوجة خاله الوجّاهة عندما كان صغيراً (الشخص الوجّاه عند القراريش هو الذي يحترم الوجهاء ويزدري العامة من الناس ويقولون فلان وجّاه ونخرته ساقطة والذي نخرته ساقطة أو باردة هو الكلب وقيل معناها أن تكون أنف الشخص متجهة إلى أسفل وعدم المقدرة على رفع الرأس والمراد الانكسار والذل) فأبتسم دون أن ينظر إليّ وقال "انت منو ال حكى ليك الحاجات القديمة دي؟" مؤكداً ذلك ضمناً لا قولاً. القصة التي سمعناها هي أنّه أقسم لبعض أقاربه أن يجعل زوجة خاله تحترمه وتوقره كما تفعل مع العمد والمشايخ وأصدقاء زوجها من وجهاء البلد فقالوا له "لن تفلح" فأصر وراهنهم على ذلك. وذات مساء تعمعم وتجلبب وركب على أحد الجمال قاصداً بيت خاله. وعندما وصل أمام البيت نادى على خاله وهو مازال على ظهر الجمل وهو يعلم يقيناً لا شك بعده أن خاله غير موجود. فجاء صوت زوجة خاله والتي عرفته من غير أن تخرج أليه بأنّه "والله مافي". فقال لها: كان خالي كان قد أوصاني بأن أحضر له كذا رأس سكر وشاي وملابس من الريف هأنا قد أحضرتها معي. وقبل أن يكمل كلامه خرجت إليه مسرعةً وطلبت منه أنّ يتفضل وبكل همة ونشاط ذبحت له ديكاً وأعدّت له العشاء وأعقبته بقهوة. فبكّر وتنّى وتلّت وما أن ارتشف الفنجان الأخير حتى نهض قائماً وقال "خالي مُحُمَّد لمن يجي أديه المخلاة دي" وقفز على سنام جمله البنسف الدير واختفى في لمح البصر وسمعها وهو على بعد ميل تلعن وتسب ساخطةً بأعلى صوتها حينما اكتشفت أنّ ليس بالمخلاة غير ثلاث دُرّابات كبيرة! وعندما وصل إلى "عود السلك" قريباً من دياره انتشى و فَشَّ وتجشأ (واندشّى) وطفق يغني "حس تلفونا ينقر كر أم غُربان أدوها خبر شربنا الجبنة بالسكّر هي جبنة عافية تطوي الشر الليل يا الله بلالي يمة الليلة وبلالي والليل يا الله" فسمعه أصحابه الذين كانوا في انتظاره فتيقنوا من أنّه قد أصاب الهدف!
وقصة مماثلة تروى عنه عندما كان صغيرا كان هناك رجل له بنات لم يرهن رجل من قبل. وبيت هذا الرجل في غابة من أشجار الطلح يُقالُ لها شِبيكة محاطة بزربية شوك عالية ومحكمة جداً. وأقسم عبدالحميد لأصحابه أن يشاهدهن نهاراً جهاراً. فقالوا له: "بيدقوك" فرد عليهم "ماعليكم". فأسرج حمار أحد الجيران و"سَدَر" أي أتجه شرقا مبتعداً عن النيل. ووقف أمام بيت الرجل يحمل أمامه ربطة من حطب الوقود وهو يعلم إنّه غير موجود ونادى بأعلي صوته "شربة موية ياناس البيت" فأحضرت له أم البنات الماء وسألته عن ما الذي أتى به إلى تلك الديار. فقال "أنا ولداً لي علي شمة جيت أكسِّر واقود طهورتي" فاندهشت المرأة ونادت بناتها "تعالن يا فاطني وعاشة شوفن الولد البقي صبي ولهسع ماطهروه دا "وما أن رأهن حتى ألقى ربطة الحطب أرضاً وقال" الليلي أنا شفت بنات000وتركهن وذهب. وما أن أقترب من مكان أصدقائه حتى أخلف ساقييه على رقبة الحمار وبدأ يتغنّى "يا شتيل المشرق العلو له سامو وا ناري القبل ما ينجض السبابة حاموا وا ناري" ولما سمعه أحد أنداده حتى صاح " الله يكسر رقبتي دي شافن" .فهو في مخيلتي رغم حكاوي الشقاوة رجل علّم نفسه من مدرسة الحياة ومعاركه معها ولكنه كان كلما حاولت فتح طاقة علي شاشة حياته وتجاربه لمعرفة ماذا كتب علي جدران الزمان أغلقها بذكاء شديد.
من صلب هذا الرجل وجده الزاهد جاء إدريس عبدالحميد. أخذ من والده والمثابَرة والحِرْص على الفعل والقول ومن زهد جده القناعة والرضا ومن والدته فاطمة بت علي المعروفة ب "بت تومة"، عليها رحمة الله، الطيبة وحب الناس خاصة الأهل منهم.
ربما خلت عدة أعوام على رحيله وثمة أصدقاء وأقارب أعزاء كثر فارقونا وعزاءات توالت ولكن مابارح نبأ موته يعصف بوجداني وظل في خاطري حياً في هيئته كما رأيته آخر مرة في منتصف الثمانينات من القرن الماضي يأتي خياله في لفيف فلاشات ذكريات طيّبة ومواقف وزيارات ومناسبات ومجاملات من الماضي الغارق في الافراح تتداخل وتلتف فأسرح في أشرطة طويلة تمتد إلي ما لانهاية في قِبَل الأرض الأربعة .إدريس هو رائد جيل العصاميين من أبناء البلد الذين عاشوا فوق أمجاد بنوها بحسن السيرة ونقاء السريرة وبنور العلم لا أَعْمِدَة الرخام أرجو تعينني المعلومات البسيطة التي بحوذتي على كتابة هذا المقال القصير والمتواضع، الذي أمل أن يكون فاتحة خيرٍ لكتابات أشمل تليق بقامته وإسهاماته كان يتعامل معنا نحن أبناء البلد باحساس مرهف كان قريبا في حديثه الى البوح والحميمية والإلفة والصدق. لا أزعم أني أعرف كل شئ عنه بل قليل من المعلومات المتناثرة وبعض الذكريات ولا أدعي أنني قد جمعتُ فأوعيتُ كل ما يُعرف عنه فسيرته لن تكتمل ولن يستقيم ميسمها إلا بمشاركة الآخرين الذين عرفوه أكثر مني .
لا نعرف متى وُلِد فوضعته أمه في زمان لم يهتم الناس فيه بكتابة تاريخ الميلاد ووسط قومٍ لهم تقويم خاص فأذا سألت أحدهم عن تاريخ ميلاده ربما قال "أنا قالوا مولود في الشهر الضكر سنة ميتة حمد الملك" وفاة حمد الملك كما مكتوبة على شاهد قبره كانت سنة 1934 أو ربما قال "الحول القبل سنة التساب" وعام التساب كان 1946وهكذا يمكن تكوين تقويم محلي يساعد في تقدير الأعمار. رغم أنهم كانوا لايهتمون بتاريخ الميلاد ولكنهم شديدو التمسك حد الدهشة بطقوس وعادات وتقاليد واسبار لها جذور في ثقافات وحضارات ضاربة في القِدم .تراقب الجدات التبدلات في النجوم واجواز الفضاء ويستعن براميات الودع وموشوشاته وضاربي الرمل ومفسري الأحلام وهن مؤمنات أن ذلك لن يغير الذي انكتب ولا المكتوب و"مابترجع الأقلام ومافيش قدر مشطوب" لكنهن يفعلن ذلك حيطة وحرصاً أو ربما تفاؤلا وتيمنا لما سيقع في المستقبل أو لمعرفة البخت .ترقب الجدات كل شئ حتى إن شدت قُمْرِيَّة أو قوقت (قاقت في الفصحى) دباسة(دُبْسِيَّة في الفصحى) حتي يقولون "خير يا كرجة خير" ويتفألون بذلك فألاً حسناً .تلبس الحامل الخَرزة والعُوذةَ والتمباب وتجلب لها البخرات التي تحرسها من أعين الحاسدين والحاسدات وتقيها سوء الطالع ويمنعونها من سماع سئ الأخبار وإن سمعت شيئا لا يسر يعلو صوت الجدات بالدعاء ويتبرأن "عرب سَلَم، خشم الباب فاتح هبوبه تكاتح، همزت الحيطة لامن قديتا ، همزت المِرق لامن عِرق " ولا تترك الحامل البيت بعد مغيب الشمس حماية لها من طائر البوم فيعتقدون إن البومة كانت امرأة فقدت ابنها ولم تصبر فانقلبت بومة لها غيرة من النساء الحُمّل وإن مست الحامل تسبب لها الإجهاض في الحال ولا يسمحون لشخص آتٍ من تشييع جنازة بالدخول في بيت الحامل أو حديثة الوضوع وإن كان صاحب الدار نفسه فلابد لذلك الشخص دخول بيت آخر أولاً . ويقولون إنّ الحامل بين نَفْسين وترسل الجارات لها أطايب الطعام . زمانئذ كانت الحامل نفسها تبدأ التحضير للحدث بتجهيز البروش وتبدأ بتجميع سَعَف"القُل" من رَأْسِ النَخْلة وهو حديث النمو من الشَّطْب (بالجزم) وتشْقُق الخُوص وتخَرَّص، وتقْشُرْ العُسُب لِتتَّخِذْ منه الحُصْر(المشقق من السعف) لتضفر الضَّفيرة أو العَقِيصَة ثم تخَيَّط الضفائز وتصبغ ب "التفتة" وهي أصباغ زاهية الألوان تستخدم في صناعة البروش (البْرَشَ لغة ما اختلفت أَلوانه).
لانعرف متي ولِدَ إدريس عبدالحميد ربما في يوم مولده أتت نساء وادي عبيدون مباركات وجئن بالزُوَارَة من ضريح ود حُرّة وربما جاءت نساء وادي ود الحاج مَشاقِرُات (المَشاقِرُ ما انقاد وتَصَوَّب في الأَرض) وفي طريقهن أتين بالزُوَارَة من قبة تور الشرق الفقيه محمد ود إبراهيم وجاءت نساء عرب القبة نواحي بلدة كلتوس بالزُوَارَة من الشيخ ود عبيدي أبنتود فتُذرّى حبات رمل الزوارة على الأجسام دون أن تُحدث تَعْفِيراً كلهم باركوا وتحمدوا السلامة ذُبحت الحُلالة (الحُرارة) وصنعوا القليّة وهي حبّ يُقْلَى على المِقلى يُقرض (يُقرش) مع التمر ثم السماية واحتفى والجيران بخروج والدته من الأربعين بالقُرْص المُتمّرة .في نسق سوسيو أقتصادي لو أُحيي كارل بولاني لما وفاه وصفه .كيف لا ؟ فهو ابن قوم كانوا يغسلون أطفالهم بماء النيل فى سبوع الولادة ويعلقون الخرز وينظمون السكسك ولهم تمائم وتمتمات وقراءات ونديهة ورسومات على جدران الغرف في بيوت لاتلامس اسقفها الجدران..وجدّات يدوامن الجلوس على الدَّكَّة ، بناء يسطح أَعلاه، بأرجلهن ذات الأَحْجال والخلاخيل وأيديهن ذات الأساور الخشبية والعاج والحِنَّاء وشعورهن المرصعة بالودع يجدن الفصادة والحجامة والكي .تاتا الصبي (التَأْتاءُ مَشْيُ الصبيِّ الصغير) ونشأ وتبّ بينهم فرحهم فرحه وفألهم فأله واحزانهم احزانه. فكان الانتماء لذلك المكان. فهو ينتمي لذلك الليل الهادي الذي لايقطع صمته إلا ضحكة عالية في أحد مجالس السمر في أحدى الرواكيب أو نغيمة طمبور تأتي بها نسمة تائهة من جهة وادي الأنصار فهو ينتمي إلى دغش أرحم الراحين وصوت الآذان يرفع من مسجد كُلة العتيق وإلى الشاي بالبراريد في المغيرب في (الشاي باللبن دوا المصارين يقوي الركبة حتى يفتح العين) فهو ينتمي إلى القراية في الواح الشرافات في الخلاوي وإلى حلقات الطار براياتها الخضر ومُدّاح صُدّاح يمْدَحون بصوت فخيم "عبد القادر ياأخينا وعبد الرحمن ود حسينا وناس الدوم أجمعينا في الجنات خالدينا" رجال شُّمَّ أَماديح يعشق الواحد منهم وينزل تتابعه أهازيج "عاشق ياحاج فوق دربك" فيغرق حتى يُعسْكِر فيأخذونه خارج الدارة. ينتمي إلى إلى صبية يشعلون بقايا ألس الساقية ويلولحونه فوق رؤوسهم فيتطاير منه الشرر ويتصايحون "هييوب" "هييوب" ليلة عاشوراء (وهي "حي أووب" من بقايا عقائد الفاطميين الشيعة) وعشاء الميتين (الجمعة اليتيمة). ينتمي إلى قومٍ يقولون للسمك الحوت وللنيل البحر إذا كان النيل ينبع من البحيرات فلابأس إن اسموه البحر . كان انتمائه أيضاً إلى صبية غُبش الوجوه يبدأون يومهم بجمع تمر الهبوب ويمضون ساعات القيلولة في لقيط تمر القُليق (قلب النخلة) .يسبحون في النيل ويلعبون "الكاك" و"الشدونة" ويرعون بأغنامهم البرم وينكتون لها العِلَّف. ما ازيف أن يعيش بين غيرأهله..ما احوج الأنسان إلى منتماه. قد ترك إدريس ذلك المكان وخرج صغيرا ولكن ذلك الانتماء لم يخرج منه إلي أن رحل من دنيانا أو هكذا نظن. لا نعرف كم عاش قبل أن يسافر مع والدته وشقيقه ولكن يُقال إنّه عاش في البلد حتى سن المدرسة وأذكر أنه ذكر ألعاب الصبيان عندما في البلد قبل سفره وأني مازحته مرة قائلا: أنت وقت سافرت (تلقاك) كنت عندك خنجر وحجاب في أعلى ذراعك اليمين! ضحك عليه رحمة الله حتى مال رأسه إلي الوراء وقال "سكين مالبستها لكن كان عندي ححاب" وسرح قليلا فتأملت في شلوخه المسطّرة الجميلة فنحن من قوم يتشلخون .الشلوخ عندنا تعني الحميمية والأنفاس الحالمة فوالدي ووالدتي وجداتي وأجدادي جميعاً وعمي وعمتي وكل أخوالي وخالاتي دون استثناء كلهم مشلّخون.
أعرف أنه كان مثل أترابه من الطلاب النابهين الذين درجوا على مواصلة مسيرتهم التعليمية ولكن لا أدري أكثر من ذلك عن تفاصيل حياته الباكرة ومسيرته التعليمية في ودمدني، ومُسوغات رحلته في عالم التربية والتعليم حيث تمكن من النبوغ والتفوق على الرغم من الصعوبات الكثيرة التي واجهها في حياته، والتي يأتي في مقدمتها هجرة والده عندما طفلاً صغيراً عدم اكتراث والده لأهمية التعليم ودفعه إلى العمل في الجناين والحقول وهو تلميذا مبتدئاً عندما اجتمع شمل الأسرة في ودمدني وحرمانه من أهتمامات أبناء المدن مثل كرة القدم والمنتديات وغيرها. ولكنه أثبت لوالدته المثابرة الصابرة ولشقيقه الأصغر بمنتهى الصمود والقوة منازلة الإحباط وتحقيق تطلعاته وطموحاته .كل الذي أعرفه عن مسيرته التعلمية أنّه كان ذكيا موهوبا ومجتهداً لكنه رغم ذلك ما أستطاع دخول الجامعة وهناك ثلاث روايات: الرواية الأولى تقول أنّه في الإمتحان الأخير لدخول الجامعة كانت الكتابة بالريشة وانكسرت المحبرة (الدواية) التي كان يستخدمها وسال الحبر على أرض الفصل فأغضب ذلك مراقب الإمتحان والذي رفض السماح له بالحصول على محبرة أخرى. والرواية الثانية تقول انكسر قلم الحبر السائل الذي كان يستخدمه ورفض مراقب الإمتحان السماح له بالحصول على قلم آخر. الرواية الثالثة عن الخال محمد عبدون (الذي نفاخر به ونباهي) أنّ كلا الأخوين إدريس وشقيقه نجحا وتأهلا لدخول الجامعة ولكن والدهما رفض ذلك متعللاً بأنه لابد لإحدهما من العمل فوراً لمساعدته في إعاشة الأسرة. فرُمِيَ السهم بين الأخوين بحضور شهود فكان العمل من نصيب إدريس .فشأت الأقدار وكانت عظمة الرسالة فالمعلم شريك الوالدين في التربية والتنشئة. رسالة بناها على الاستقامة والأمانة والحزم والحِلم والنباهة والحضور والتسامح وحسن المظهر وغزارة المعرفة وسقاها بالاعتدال والتسامح والمودة وتفانى فيها وصبر "صبر الحجر الأصم العمرو لا زحا ولا نضم" حتى تقاعد بكل عزة وشرف.
في أول زيارة له إلى البلد، بعد التحاقه بسلك التعليم، شجع أهله وحثّهم على بناء مدرسة في زمان كان الناس يظنون أنّ المدارس تتلف الأبناء وتبصرهم بدروب المَتالِف المَهالِك. فكان ثمرة ذلك أن تعاون الناس وجيرانهم في وضع أساس أول مدرسة أولية مختلطة صُدقت بإسم مدرسة حامدنارتي والدوم الأولية عام 1966م.
كان يأتي البلد فى أجازات غير منتظمة ومتباعدة فيفرحون بزيارتة إيما فرح. ويعزمونه ويذبحون له ويقيمون له الولائم. تفرش المفارش والبروش ويغص الديوان بالجيران وتزدحم "الكرقة" المتاخمة للديوان بالصبية ويزدحم البيت بضجيج النساء والبنات. يؤتى بالصواني وبعدها الشاي المُحلّى بنكهة الحبهان، ويعم المكان فرح مترعٌ بالحفاوة والحكاوي والذكريات. من كان لا يعزم إدريس عبد الحميد؟ الكل يكرمونه حباً له ورداً لبعض الجميل حتى قيل "البلد تشبع لحم في العيد الكبير وعندما يزورها إدريس عبدالحميد".
زاورته كثيراً وتعرفت عليه أكثر وعلى أطفاله الصغار (آنذاك) وزوجه الفاضلة هند (حرم) المسربلة بالكرم والتواضع والوقار في فترة الثمانينات فكان بيته العامر أشبه بلوكوندة لناس البلد الذاهبون إلى الحج والعمرة ، الباحثون عن عقودات العمل في السعودية، الذين أتوا للعلاج والاستشفاء، المسافرون إلى مدن أخرى وغيرهم كلهم ينزلون ويغادرون من منزل إدريس عبدالحميد استمر ذلك إلى أن هاجر إلى السعودية وعمِل فيها موجها تربوياً في منطقة الرّس .لا يفوتني هنا أن أذكِّر بدور أسرته فزوجته من خيرة بنات البلد وأكرمهن وأكثرهن معرفة لعادات وطبائع الأهل من ناس البلد.
دوره لم يكن مجرد استقبال وحسن ضيافة بل كان يقدم المشورة والنصح ويذهب بنفسه أحيانا ويتصل بأصدقائه ويبذل وقته وجهده وزمنه لمساعدة الآخرين. ومن الصعب أن أعدد كيف كان يساعد الناس ولكن هناك مثال دائماً يقفز إلى ذاكرتي. كنت طالباً في الجامعة وذهبت لزيارة قريبةً لنا جاءت مرافقة لبنتها وإدخلت إحدي مستشفيات في الخرطوم. عندما دخلت العنبر للزيارة رأيتها تقبع في ركن قصيٍّ جوار ابنتها المريضة وقد جعلت من طرحتها عصابة ربطت بها رأسها لتقلل من آلام الصداع .تهلل وجهها حين رأتني مقبلاً فكانت قد طلبت مني أن أحضر لها السعوط (السمح) حكت لي عن ضيقها وعن "كلام ناس الاسبتالية" وجلسنا فأحضرت أحدى العاملات الطعام! نظرت إليّ قائلةً "يا وليدي أنا لحمهم الزي هرير الكديسة دا (تقصد السجق) أنا في خشمي ما بسويه. يا وليدي كسييري بي أُقد والله فطييري بي لبناً رايب مانلقاها" وفي هذا الأثناء حضر أدريس عبدالحميد والله أنا صرت أكثر فرحاً منها. جلس معنا قليلا وقال إنّه سيعود في مواعيد الزيارة. وفعلاً عاد وهو محمل بعواميد معبأة بالأكل والشاي وغيار نظيف وثوب للحاجة ودفع الواجب تركناها وهي تدعو أن شاء الله ياأدريس يا أخوي الله يتم مروتك وأن شاء الله ما تتوسد ضراعك إلا في النوم" هكذا كانت حياته وتعامله مع الآخرين. حياته الحافلة في السعودية ورحيله عن دنيانا سنفرد لها مقالا خاصاً إن شاء الله وإلى ذلك الحين أقول سلاما يا صاحب الوجه المشلخ العريق، هذه شذرات من بعض احسانك إنعامك ومحاسن دنياك ومجازاة وثناء ورد لودك الجميل وأختم قولي بالصلاة معظما فيا ربنا صلي وبارك وسلما على المصطفي والآل والصحب دائما صلاة تفوق المسك عطرا مفخما يطيب بها كل الوجود ويتلألأ.
ملحوظة
قدّم أستاذنا عبد الله علي إبراهيم سمنار بعنوان "الأيادي الخضراء: خيال القائد المحلي ونهجه" في عام2010 بمدينة عطبرة دعا فيه كل عارف لفضل قيادة محلية عرفها ووقف على خيالها ونهجها عن كثب أن أن يكتب عن هؤلاء القادة المحليين الذين اختصهم الله بإسداء الخير لإهلهم وعن أساليبهم في قيادة الناس لنضع خبرتهم في صنع الخير في سياق أشمل وأنا هنا أجدد هذه الدعوة لخلق نوع جديد من الكتابة والتوثيق يهتم بتلك الأجيال من القيادات المحلية التي أسعدت أهلها في المدن والقرى والفرقان.
Abdelrahim Salih [[email protected]]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.