اعتاد ختام يومه بقراءة الصحف اليومية حتى يغشاه النوم، يقرأ كل الأعمدة الصحفية والتحقيقات والمقالات وقبلها الأخبار ومن ثم يشرع في تركيب معادلته اليومية لما يجري في البلاد من أحداث وما يتعاقب فيها من تطورات، ويجمع الرجل معادلاته تلك ليستنتج منها معادلته الأسبوعية ومن الأسبوعيات ينتج معادلته الشهرية ومن الشهريات ينتج معادلة العام ومن الأعوام يفرج الرجل عن تنبؤاته التي تفصل في مآلات الأوضاع والأحداث وترسم معالم المستقبل، وقناعته في ذلك تقوم على فرضية أن الإعلام يقود الحياة ويتفوق على الواقع في فرض إرادته رغم أنف الحقائق التي يتسلح بها الواقع. مسيرته الطويلة مع الصحف اليومية صنعت منه المثقف الأول والأوفر حظاً من بين كافة (المثقفاتية) في منطقته، والناس في تلك الأنحاء تستمع إلى تحليلاته وكأنها تستمع إلى الحدث نفسه وهو يتحدث عن نفسه وحين يطلق تنبؤاته يستقبلها الناس وكأنها مسلمات، ذلك أن الرجل يضيف إلى ما تكتبه الصحافة ويتوسع ويدلل ويتنبأ وينتقد ويرسم مؤشرات دقيقة قد لا يفطن إليها كاتب المقالة الصحفية، ويستجمع تفاصيل من مقالات أخرى أغفلتها المقالة المعنية، وهكذا صار الرجل يقرأ للناس وهم ينتظرونه على أحر من الجمر، وقد تراجعت مبيعات الصحف وانصرف الكثيرون عن مشاهدة البرامج التلفزيونية التي تعنى بأقوال الصحف وتحليلاتها. صارت الصحف حياة الرجل وسجنه مثلما كانت نشرات الأخبار حياة أبيه وسجنه، وقد كان والده يفعل ما يفعله هو اليوم والناس آنذاك لا يملكون من أجهزة الراديو بما يكفي، ولذلك تجدهم يهربون إليه ليعرفوا أخبار الحرب العالمية الثانية ويستمتعون بتحليلاته وفي بعض الأحايين يدعهم يستمعون للراديو ويومها يتوسع في التحليل ونشر المعلومات عن قادة الحرب وأسرار المعارك والعبارات الشهيرة التي يطلقها سدنة الحرب. سارت العلاقة بين الرجل والصحافة على نحو من الوئام طيلة ثلاثين عاماً، لا يقبل بديلاً لها ولا يسعه غيرها وله في ذلك حجة ومنطق يدفعه ليدافع عنها أمام كافة الحملات التي تتطاول على (صاحبة الجلالة) إلى أن قطع الود خبر جاء في شكل قصاصة شاردة، وهي تنقل خبرًا والرجل كان ألصق بالواقع من الإعلام، ولكن النشر بالرغم من كلماته المعدودات كان مدمرًا وكارثياً وسافرًا وجريئاً، ولحظتها بدأ الرجل يتوقع الأسوأ والناس من حوله لم يطالعوا الخبر بعد، وينتظرونه ليخرج عليهم ليفاتحهم بما جاءت به الصحف كما اعتادوا في كل يوم. الخبر ينقل تسريبات يتناقلها الناس همساً داخل القرية، والرجل يدرك كذبها وأنها مجرد شائعات ما تلبث وتموت مثل عشرات الشائعات التي ضربت مجتمع القرية وسريعاً ما تلاشت، ولكن هذه المرة صحافة الخرطوم تأتي بالشائعة خبرًا أكيدًا تحذف منه الأسماء، ولكن الصياغات تشير إلى الشخوص وإلى القرية وإلى الفضيحة المدوية التي هي نسيج من خيال مريض يتنفس مثل (السكري) عبر الجروح التي تضرب جسد المجتمع. يقرر الرجل عدم الخروج إلى الناس ولكنه يهم من ملاحقاتهم له فيهم بالخروج إليهم، ولكنه يخشى أن يفاتحه أحد من أهل القرية في أمر الخبر المنشور. يتسع تفكير الرجل ليتجاوز القرية وينتقل إلى واقع الصحافة نفسها وهي تفعل بالناس (الأفاعيل) وتوزع التهم كما تشاء، وتبرئ كما تشاء وتخلط العام بالخاص كما تشاء، وتصبغ الشائعة بلون الحقيقة فتبهر به من تشاء وتقف عليه حتى لا ينكشف زيفه، ويرجع الرجل بذاكرته إلى عشرات الآلاف من الأخبار والتسريبات الصحفية، وقد كان يقرأها ويثق فيها وينشرها إلى أهل قريته وكأنها الحقيقة المجردة، ويستخدم الرياضات في هذا المقام ويتساءل: كم من بريء أدانته الصحافة وقضت عليه ورحل من الفانية بسببها وينتظر هناك يوم لا يظلم أحد ليقتص من رئيس تحرير أو من كاتب مقالة ومنه هو وهو ينقل عن الصحافة (سخافاتها). من تلك التسريبات الصحفية يذكر الرجل قصة حكاها له صديق قديم ولم يصدقها وقتها ولكنها عادت اليوم وهي تطرق بعنف والحكاية مضمونها أن امرأة انتحرت عندما خرجت عليهم إحدى الصحف الاجتماعية بصورة زوجها وسط عصابة من اللصوص كانت تهبط إلى بيوت الناس ليلاً تسرق وتقتل، ولكن المحكمة في النهاية تنتصر إلى الحقيقة وتبرئ الزوج، ولكن الغريب أن محكمة أخرى برأت الصحيفة لعدم وجود دليل وقد اختفت الأدلة وسط الصياغات، وللعربية في ذلك فنون وقدرات هائلة تعصم المجرم من أن ينال جزاءه وتتركه ليناله كله هناك، فالمحكمة لا تشفع له وكثير من العقلاء لا يحتفون ببراءة الصحف في المحاكم. اعتزل الرجل الصحف واعتزل مجلسه مع أهل قريته وانصرف يكفِّر عن سيئاته، وذات الفعل فعله أبوه حين تكشّف له كذب العبارة الشهيرة التي ظلت تطربه لنصف قرن (هنا لندن).