في منتصف تسعينات القرن المنصرم وذات صيف ساخن، وقف الدكتور الترابي على رأس حشد نوعي من طلاب الجامعات بقاعة الشارقة، وبدأ يحثهم على الجهاد ويتلو عليهم قوله تعالى (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً). لدى سماعهم هذه الآية من الشيخ الجليل مسح الكثيرون دموعهم بأطراف أصابعهم يحدوهم شوق عجيب للجنان، ساعتها كان طالب الهندسة بجامعة الخرطوم علي عبد الفتاح يزمجر كالأسد في (شارع المين) ليقود (كتائب الرحمن) إلى مناطق العمليات، ومعه رهط من المجاهدين، في ذلك الوقت كانت الحرب قد انتقلت لمرحلة أخرى بعد أن زودت الدول المعادية لما سمي بالمشروع الحضاري قوات التمرد بمعدات ثقيلة ودبابات، ولرفع همة المجاهدين أطلق علي عبد الفتاح عبارته الداوية (الدبابات جات والدبابين جو) فانتشرت العبارة انتشار النار في الهشيم، وأصبح للإنقاذ كتائب نعتت بذلك المسمى الجديد، إلا أنهم سرعان ما تلاشوا في مسارات الرحلة، من قضى نحبه ومن لزم بيته ومن تقلب في المطائب، مرت السنوات وجاءت اتفاقية السلام ثقيلة على قلوب الكثيرين وخلفت من الجراح ما خلفت، لدرجة أن البعض اعتبرها خيانة لدماء الشهداء، غير أن هنالك من يعتقد بأن الثورة لا تزال في حاجة إلى شباب يرفعون شعاراتها ويستميتون في الدفاع عنها، وإن كان البعض الآخر يتغنى للإنقاذ بلسان فاروق جويدة "العطر عطرك والمكان هو المكان، لكن شيئاً قد تغير بيننا لا أنت أنت ولا الزمان هو الزمان" فما الذي تغير بالضبط وهل لا يزال في رصيد الإنقاذ المزيد من الدبابين بعد أن برزت أنياب التمرد من جديد في ما عرف مجازًا بالأطراف المهمشة؟ { (جلي) شاب قمحي اللون هو ابن الحركة الإسلامية بالأصالة، مضى ومعه آخرون قبل أيام قلائل لوداع بعض إخوانه الذين رفعوا التمام ضمن كتائب الدفاع الشعبي لرئيس الجمهورية، العاطفة الدينية التي اندلقت في دواخل الفتى وألهبتها أناشيد الحماسة لم تبدل إجابته عندما سأله أحدهم متى ستكون هنالك؟ فما كان منه إلا وأن أجاب ساخرًا: (ستجدني بإذن الله في متحرك أبناء المسؤولين)!! ولربما كان (جلي) غاضباً أو متحاملاً على أبناء المسؤولين الذين كانوا في الماضي بذورًا للثورة، وأصبح للشهيد عرس تنصب له (الخيام) وتشق فيه الزغاريد عنان السماء، وقد دفع الرئيس البشير ببعض أهله وإخوانه وصعدت روح مصعب نجل المهندس الطيب مصطفى إلى بارئها وروى بدمه أرضاً كانت عزيزة على الإسلاميين قبل أن تبتر بتحريض من والد الشهيد مصعب نفسه، وأيضاً قدمت أسرة الترابي بعض الشهداء، وتلقى القيادي بالدولة أحمد علي الفشاشوية خبر استشهاد ابنه (همام) بالتهليل والتكبير، وما كان من والدة همام (شامة الجميعابي) إلا وأن ألقمت النائحات حجرًا وتولت المصحف لتقرأ ما تيسر من أجل فلذة كبدها في تلك الساعة العصيبة، لم يكن ذلك حصرياً على البعض وإنما زف كبار قادة الدولة أبناءهم في سبيل القضية التي يؤمنون بها، ولم يكن الجهاد فرض عين فقط بقدر ما كان ميداناً للتطوع والتربية، فشغل برنامج (في ساحات الفداء) الناس للمدى الذي جعل السودانيين بالداخل والخارج يتسمرون أمام شاشة التلفاز لمتابعته كأنهم مشدودون نحو مباريات (كأس العالم).. { ولكن، للغرابة بعد كل تلك السنوات بدأت جذوة الجهاد وسط الشباب تخمد، كما بدا للبعض، مما جعل قيادياً إسلامياً مثل الدكتور الجميعابي يخرج ليحاكم الإنقاذ في نسختها الجديدة باعتبارها لم تعد تمثلهم بعد أن شابتها شائبة الفساد. يقول الجميعابي في حوار سابق مع (الأهرام اليوم) إن الحركة الإسلامية التي كانت تحث الشباب على الجهاد غُيبت تماماً، ومن غيبوها قصدوا الانفراد بالسلطة ولا أثر لها اليوم في الجامعات، الجميعابي مضى أكثر من ذلك مشهرًا المزيد من الطعون ضد من كانوا إخواناً للشهداء وخانوا دماءهم (حدِّثونا عن أبناء بعض المسؤولين الذين يقودون الشركات الكبيرة في الإمارات وفي ماليزيا وفي مشتريات الدولة، هل هذه الشركات يديرها أبناء القيادات من الحركة الإسلامية ومن المؤتمر الوطني ومن قيادات الدولة أم لا؟ فليحدثوننا كيف دخلوا إلى السلطة هل كانوا يملكون شيئاً؟ وماذا يملكون الآن هم ونساؤهم وأصهارهم وأبناؤهم)؟ { الكاتب الصحفي إسحق أحمد فضل صاحب فكرة برنامج (في ساحات الفداء) لا يزال متخندقاً في وعيه القديم وممسكاً بجمر القضية، إسحق رفض مسألة المقارنة بين المرحلتين مؤكدًا ل(الأهرام اليوم) أن الرحلة قاصدة، إلا أنه سرعان ما استدرك قائلاً: بالفعل زمان المسألة كانت واضحة ولكنها الآن أصبحت معقدة. وأشار إلى أن الظرف مختلف وحشد الطلاب والشباب في كتائب جهادية يحتاج إلى فقه جديد، وأضاف: إن المسألة الجنوبية في الماضي كانت واضحة لأنهم كانوا يريدون ديننا، وكان هنالك مسلم يقاتل شخصاً غير مسلم، إلا أن اندلاع الحرب في دارفور منح القضية وجهاً آخر وغبشها تماماً، والآن نحتاج إلى جراحة فقهية تعيد الأمور إلى نصابها. ومضى إسحق إلى أنه بتبني الجنوب للحركات المتمردة لم يعد وراء الحكومة غير القتال، لافتاً إلى أن الدوافع متوفرة وأنهم سيفعلون ما يريدون رغم غباش السنوات الطويلة (العايزين نعملوا بنعملوا)، وتساءل إسحق: إذا أردنا التأكيد على مشروعية قضيتنا وسط سيل الاتهامات علينا أن نجيب على الأسئلة الخطرة: ما هي الدولة وما هو الظرف التاريخي والديني وما هي القضية؟ وعلينا أن نعيدها إلى عناصرها الأساسية، وبالتالي علينا أن ندرك أن طعام الطفل غير طعام الشاب، غير طعام الشيخ، وكذلك الدولة. { مرافعة إسحق لا تختلف كثيرًا عن العبارة التي أطلقها الرئيس البشير قبل أيام وهو يتلقى التمام من كتائب الدفاع الشعبي (يخوض الشباب السوداني القتال في ميدان الحرب، بينما ينشغل شباب العالم الآخرون بالرقص في الديسكوات والحفلات، نحمد الله على أننا أعددنا هؤلاء الشباب باعتبارهم مستقبل السودان. الله أكبر). { وبعيداً عن إسحق ربما تختلف ملامح الدبابين في الجمهورية الثانية عن الجمهورية الأولى، وإن كان قادة المؤتمر الوطني يصرون على أن التمرد يريد أن ينال من دينهم، وقد أكد مساعد رئيس الجمهورية الدكتور نافع علي نافع لدى مخاطبته اللقاء الجماهيري في منطقة وقر بمحلية شمال دلتا القاش في ولاية كسلا أمس الأول، أكد تمسك السودان براية الجهاد. وقال إنه لن يحيد عنها أو يهلك دونها، وردد آخرون نفس الشعارت القديمة - جوبا ليست بعيدة - و(هي لله هي لله لا للسلطة ولا للجاه)، ولكن في خضم تلك المراجعات التي يجريها بعض قادة الدولة لشعاراتها القديمة برزت أصوات ناقدة من الداخل، لدرجة أن الدكتور أمين حسن عمر خرج بالقول إن شعار (فليعد للدين مجده أو ترق كل الدماء) مجرد فكرة عدمية، منوهاً إلى أن السياسة ليست هي الأحسن إنما الأصلح. { البعض يعتقد أن تصدي منبر السلام العادل للتمرد كأنه هو الأب الشرعي للدولة هو الذي أضر بالقضية وانحرف بها إلى مربع المزايدات، سيما وأن بعض الإسلاميين رفعوا البندقية في وجه الحكومة نفسها وخرج من صفوفها عشرات المقاتلين لإحساسهم بالتهميش والغبن، إلا أن قادة منبر السلام العادل المتهمين أساساً بفصل الجنوب والتحريض على فصل مناطق أخرى، يعتقد الكثيرون بأن لديهم أسبابهم الخاصة التي لا تخلو من إشارات عنصرية، وإن كانوا هم ينفون ذلك بالمرة، وعلى مقربة من ذلك يبرز السؤال من جديد: هل ترتد الإنقاذ إلى سيرتها الأولى وينتظم الدبابون في كتائبها للذود عن مشروعها المتنازع عليه، أم تعود بالتزامن مع ذلك دفارات (الخدمة الوطنية) لو تعذر الأمر واحتاجت الدولة للمجاهدين؟ هذا السؤال يفرض نفسه بقوة على مجريات الحال وغيره من الأسئلة، ولكن الأسئلة عمياء، وحدها الإجابات هي التي ترى، كما تقول أحلام مستغانمي.