قبل أن يشنّف خبر الهجوم على هجليج أسماع الناس في مساء الثلاثاء المنصرم، كانت «طلمبات الوقود» بالخرطوم على اتساعها وكثرتها تعج بالزحام دون مبرر، مما جعل بعض البسطاء يتساءلون ببراءة عما حدث وماهية أسباب الزحمة؟ لكن دون أن يجيبهم أحد ساعتها، لأنه ربما حتى بعض المصطفين لا يعرفون لذلك سبباً.. بيد أن معلومات توفرت لأجهزة الحكومة تفيد بأن الأزمة مفتعلة وكانت وراءها قوى المعارضة التي وجهت منسوبيها للاصطفاف، لخلق حالة من الهلع وسط المواطنين على غرار الفوضى الخلاقة... حسبما قال نائب رئيس الجمهورية د.الحاج آدم، أو وفقاً من تصريحات وزير الإعلام عبدالله علي مسار التي حذر فيها من أسماهم بالطوابير من العسكريين المتقاعدين والأحزاب الذين يعقدون اجتماعات ليل نهار لإسقاط النظام... بينما سبقه في ذلك مساعد الرئيس د.نافع علي نافع الذي قطع عقب اجتماع للمكتب القيادي انتهى في ساعة متأخرة من ليلة الثلاثاء تلك، بأن الحكومة لن تتهاون مع العملاء والمتعاونين مع الحركة الشعبية وأنها لن تكتفي بالتلويح فقط لكشفهم وإنما ستستعين بأسماء حقيقية، لفضحهم أمام الرأي العام. كل تلك الاتهامات والحيثيات المساندة لحجج الحكومة تجاه المعارضة تنبع من فرضية أن انهيار النظام هذا مدخله الباب الاقتصادي فقط، استغلالاً لهذه الظروف، سيما أن تجارب كثيرة مرّ بها السودان في عهود ماضية كان للعامل الاقتصادي دور في تغيير أنظمة عبر انتفاضات شعبية، وما انفك المؤتمر الوطني يذكر الجميع بصفوف البنزين والرغيف في عهد حكومة المهدي على سبيل المقارنة كلما تحدث الناس عن إمكانية حدوث انتفاضة بالخرطوم... لكن الحديث عن وجود تنسيق بين المعارضة بالداخل وتحالف الجبهة الثورية بالخارج وحكومة الجنوب لإسقاط النظام بالخرطوم موجود على لسان مسؤولين بالحكومة منذ وقت بعيد، وما يزيد هذه الفرضية قوةً هو التركيز على هجليج وتكرار الهجوم عليها، وإن كانت منطقة تلودي التي تقاسم هجليج ذات الأرض هي الأكثر استهدافاً، غير أن لهجليج ميزة خاصة في أجندة الأطراف جميعاً ربما المعارضة والحكومة وحكومة الجنوب، فنائب الرئيس د.الحاج يقول إن الاهتمام بالمنطقة يكتسب أهميته لكون أن هجليج فيها خدش لكرامة الوطن وفيها إشارة إلى رغبة العدو المستمرة لتدمير البنية التحتية للاقتصاد السوداني...وتتسق هذه النظرة الاستراتيجية مع واقع أن هجليج هي الركيزة المتبقية للاقتصاد في الشمال بعد أن ذهبت حقول النفط الأخرى مع الجنوب، لجهة أنها توفر ما يزيد عن مائة ألف برميل يومياً للاستهلال المحلي، وهو أمر يشير إلى أن إغلاق هذه الكمية سيحدث فجوة في الوقود بالخرطوم مما يمثل سبباً لإحداث تضجر وسط المواطنين للقيام في ثورة ضد الحكومة...إذا أخذنا في الاعتبار أن هذه الثورة هي الغاية التي ترمي المعارضة من خلفها كل حبالها وتحدثت عن ذلك صراحة في أكثر من مكان وزمان، وهنا ربما حملت الاتهامات الحكومية قدراً من الحقيقة ولو من باب تهيئة الرأي العام وتسجيل هدف في مرمى المعارضة يرفع من نقاطها في ملعب السياسة...ولكن لهذه الفرضية فوائد بالنسبة للقوى السياسية المعارضة في الداخل حسبما يرى الخبير الأمني اللواء حسن بيومي من واقع أنها تعطي المعارضة حجماً أكبر من حجمها، ويقول بيومي الذي استنطقته (الأهرام اليوم): المعارضة ليس لها فهم في ذلك، وأضاف«لو كانت تفكر بهذه الصورة لأسقطت هذا النظام من زمان»، ويعزو بيومي الاصطفاف حول محطات الوقود إلى المنطق الذي يقول إنه بمجرد أن يسمع الناس بحدوث خلل ما في مرفق مهم فإنهم يسارعون تلقائياً للبحث عما يقدمه هذا المرفق من سلعة، وأضاف» ذلك يمكن أن يحدث مثلاً إذا سمع الناس أن هناك هجوماً على خزان المياه، فيهرعون إلى جلب المياه وتوفيرها»...ذات المنطق ينطلق منه المحلل السياسي د.صلاح الدين الدومة عندما يشير إلى أن هناك أشياء أخرى يمكن للمعارضة استغلالها في تحقيق أهدافها ليس من بينها أزمة الوقود، لكنه ينوه إلى أن المعارضة بطبعها كسلانة وغير جادة وغير نشطة في معارضتها للنظام. ويقطع الدومة بوجود أزمة حقيقية نتجت عن الحدث وليست مفتعلة. سرعة تغيير بوصلة المعارضة خلال الأيام الماضية في اتجاه إدانتها للحرب ومطالبتها الأطراف بتحكيم صوت العقل، قد تخلق نوعاً من جدار الحماية لها، وتخفف من الضربات القاسية التي يتوقع الكثيرون أن يسددها الحزب الحاكم، في ظل ظروف لا تقبل القسمة على اثنين «مع أو ضد»... وبخلاف بعض الأصوات «النشاز» داخل كيان قوى الإجماع الوطني أكدت المعارضة عزمها لتغيير أجندة اجتماعها المقبل، لدعم جهود وقف الحرب والبحث عن مخرج للأزمة ليس من بينه الرصاص...وهذا ما أشار إليه عضو التحالف محمد ضياء الدين الذي وصف اتهامات الحكومة لهم «بالمضحكة» من واقع أن الأمر لم يخطر ببالهم على هذا النحو، ويقطع ضياء بأن المعارضة كانت أكثر مسؤولية في مطالبة قوات الحركة الشعبية بالانسحاب من منطقة هجليج والتأكيد على سودانيتها ومطالبة الطرفين بوقف العدائيات، ويضع الرجل الاتهام في سياق أن القصد منه تهيئة الرأي العام ضد الأحزاب، وأضاف»هذا ستكون نتائجه وخيمة على الوضع بشكل عام» ويؤكد أن قوى التحالف الآن هي أكثر حرصاً على توحيد الجبهة الداخلية، وتميز بين العداء للوطني كحزب وموقفها من الوطن، وزاد قائلاً: هذا ما يجب أن يعيه القائمون على أمر الدولة بأن الحزب الواحد لا يستطيع أن يدير البلد، وأن يحارب في ثلاث جبهات دون موقف وطني داعم»، وطالب ضياء في حديثه كوادر الوطني بالتركيز على مفردات الخطاب السياسي بالقدر الذي يعمل على لملمة أطراف الموقف لصالح السودان.