اللافتة الموضوعة بعناية فوق المنصة عن (الزّراعة والرّعاة) كادت تحاصر كلمات نافع علي نافع بالأمس.. أزفت من اللقاء خواتيمُه دون أن ينبس مساعد الرئيس ببنت شفَة حول راهن الأوضاع. للرجل فرادته في اقتناص أنصاف الفرص. معروف باستغلال السوانح لتصويب مدفعيّة كلماته صوب أهداف صعبة المنال، أو سهلة، سيّان الأمر. ما يصنع الفرق هنا أن رسائله المغلّفة على الدوام تجد طريقها لصندوق البريد المعني في الإحداثيّات السليمة، وبالدقّة المطلوبة. (قاسية) على مناوئيه؟ ربّما..! بيْد أنّها تجعل حزبه في موقف الهجوم وتحاصر الخصوم في خانات الدفاع. قصاصة ورقيّة صغيرة دُفِع بها صوب المنصّة كانت كافية لتغيير دفّة ومسار الجلسة. بدا واضحاً أنّ الحضور الذي التأم من أجل مؤتمر للزراعة كانت آذانه تتوق لمعرفة آخر المستجدات في ميدان المعركة وساحات السياسة، يعضّد من شغفهم أنّ محدّثهم يتمدّد سلطانه في كل زوايا الدولة والحزب. دربته في ملفات الأمن والاقتصاد وخبرته في منعرجات (ساس يسوس) هيأت الحاضرين داخل ذاك «الهنكر» القابع في الزاوية الغربية للمركز العام للمؤتمر الوطني لملخّص دسم، بمجرّد أن قرأ الورقة التي مررها له أمين الزُراع والرعاة د. إبراهيم هباني قال: إن الأخ إبراهيم كأنه أشفق أن لا أقول شيئاً عن المسرح السياسي وعن قضية هجليج... وهنا كأن الخبز أعطي لخبازه، ففتح د. نافع فوهة بندقية هجومه وأطلق رصاص الكلام في كل الاتجاه، مما جعل جموع الحاضرين بين التصفيق والتكبير والاستماع بتركيز، من واقع الرجل وعلى غرار المثل «جا من الآخر». بدأ بقضية الداخل، وقبل أن يوضح أكثر تذكرت ما قاله الرجل عقب اجتماع المكتب القيادي الطارئ في بحر الأسبوع المنصرم، بأنهم لم يكتفوا بالتلميح فقط لما وصفهم بالطابور الخامس وإنما سيكشفون الأسماء... وهو أمر يشي بأن الرجل وجد فرصته لإخراج معلومات بالأمس كانت سرية إلى العلن... فاعتبر أن القضية ليست قضية هجليج وإنما قضية استهداف للسودان كله، وقال إن قناع التآمر قد انكشف واستبانت الرؤى وتمايزت فيه الصفوف، وهذا وفقاً لنافع لا نود أن يكون على مسرح العمليات، وليس هو تمايزاً بين من يقف على جانب الوطنية والعزة والكرامة، ويزحفون على تحرير هجليج ولا على الممايزة بين الذين يدعون لتطهير كافة الأرض السودانية، ولكننا نود له - وهذا هو المهم في تقديري - أن يكون تمايزاً بين كل أهل السودان ليحيا من حيي عن بينة ويهلك من هلك عن بينة، ولا نود لها أن تكون قضية إعلام وصحف ولا مكتب قيادي وإنما نريدها أن تكون قضية كل مواطن ينتمي للمؤتمر الوطني... وقال نافع إن كان العدوان على البلاد مؤلماً ويستحق التضحية فإن هذا التباين يستحق التضحية أيضاً. وتمهيداً لما يريد أن يقوله الرجل، وضع د. نافع بعض المسكنات على كلماته، فقال: أنا أعلم أن الناس لا يودون «الشينة» ولكن أنا أقول هذا وقت «الشينة» ، وهذا ليس وقتاً للمجاملات ولا وقتاً «للطبطبة» ولا وقتاً «لفلان ولا قريبي وأخوي ولا هذا زعيمي السابق ولا الحالي»، هذا وقت للانتصار والانحياز للصف الواضح. وأضاف موجهاً حديثه للحاضرين: «لابد أن تنعكس هذه الروح منكم جميعاً في كل المواقف والأماكن سواء في«البص، الطائرة، أو قهوة الشاي» وأن كل مرجف ومتخاذل بل وكل ملحد في القول لابد أن يواجه بالذي يليه مباشرة.. وزاد بنبرة أكثر تشدداً: «ما عايزين تقارير ترفع بأن فلان قال بل تردوا له في مكانه ويأخذ حقه كاملاً لأننا نريدها براءة من الله ورسوله عن كل الخونة حتى لو كانوا من الأبناء أو الأمهات أو الآباء». وكان واضحاً أن الرسالة السابقة التي أطلقها د. نافع عبر أثير الانتقادات لم تكن مقصودة لذاتها، وإنما مدخل لرسائل أخرى ولجهات أخرى، آثر توضيحها عبر عبارات محددة، عندما قال: لا نقبل أبداً الاستعلاء الطاغي والانتفاشة الكاذبة والادعاءات العريضة من قبل من يسمون أنفسهم «المعارضة»، لكنه أضاف: «حتى نتبع القول بالعمل أود أن أتحدث عن الأحزاب المنخذلة بالوضوح الكامل، ومن شاء فليذهب إلى المحاكم ومن يشاء أن يفعل غير ذلك فليفعل»، وعلى رأس هذه الأحزاب وفقاً لنافع هما حزبا «الشيوعي والشعبي» وعلى رأسهم جميعاً «زعيم الشعبي»، والذي قال إنه اعترض في اجتماع لأحزاب التحالف على إخراج بيان يدين الهجوم على هجليج، وفعل ذاتها في اجتماع لمكتب حزبه السياسي وخرج مغاضباً عندما أصر الكثير من الطيبين في المكتب على أن يدينوا الهجوم على حد تعبيره، وذكر أنه يقصد من هذا الكلام البراءة والنصح والإخلاص وعقد العزيمة، وأضاف: «أقول لكم إن ثماره ستكشف الغشاوة عن كثير من هذه الأحزاب وكثيرون منهم لديهم الاستعداد وسوف نتواصل معهم». بيد أنه حتى ما ظهر من بعض الأحزاب كالحزب الشيوعي وما أخرجه من بيان أدان فيه احتلال هجليج، لم يكن شافعاً له أمام انتقادات الرجل وهو في قمة فورانه السياسي، فقال نافع: رغم أنفهم الذي يقولونه متأخراً... وهنا لم يفوت الفرصة للبحث في ما وراء إدانة الشيوعي، إذ قال نافع إن ما ظهر في صحف الأمس من الحزب الشيوعي، البعض اعتبرها فرفرة مذبوح أو صحوة ضمير، ولكن نحن نقول لا بل هي محاولة لاستغفال أهل السودان ونحن نعلم أن الحزب الشيوعي بكل كوادره هو جزء أصيل من الحركة الشعبية، وأضاف: «الذين لا يعرفون انتماء عرمان وجعفر ومحمد يوسف فليحدثوننا، ومن قبلهم أبازرعة وتيسير وهؤلاء هم رسل التمرد». وفيما يتعلق بالشعبي قال إنه لا يستطيع أن يتبرأ من حركة خليل التي قال إنه كان لاعباً فاعلاً في اختيار خليفة خليل وكلف بمهمة الاختيار «حمدون». غير أن «جرافة» د. نافع لم تتوقف عند توجيه النقد للأحزاب التي قال بأنها رفضت جملة وتفصيلاً إدانة الهجوم، وإنما صوب سهامه مباشرة ناحية من أدان منهم الهجوم في وقت مبكر، ورغم أنه قال إن الحق لابد أن يقال وإن هناك أحزاباً أدانت وكان لها دور مقدر ويحمد لها، مثل حزب الأمة القومي الذي اقترح إدانة احتلال هجليج من داخل المعارضة، وأشار إلى أن إدانة الأمة تأتي من موقف إستراتيجي من رفضهم لمسلك الحركات باعتبار أنها جهوية وعنصرية لن تألوا الأرواح إلاً ولا ذمة... إلا أني - والحديث لنافع - أعيب على حزب الأمة - وقد قرأت مؤتمرهم الصحفي وتابعت بعض ما يكتبونه في المواقع - أنهم عادوا إلى خلط الأوراق محاولةً لاستغفال الناس، ووضع كراع في مركب وأخرى في القيف، وأضاف: «وأهلنا يقولون: ركاب سرجين وقيع، ونحن نقول إن مثل هذه المواقف المربوكة والمرتبكة لابد أن تبين لقواعد هذه الأحزاب» واعتبر نافع أن هذه المواقف من الأحزاب نتيجتها هي زوالها لأنها عميلة، وجعلت من الاختلاف الفكري مع الإنقاذ وسيلة للارتزاق والتعاون مع العملاء وتجنيدهم ومدهم بالمعلومات من الخرطوم، وقال : سعينا كل هذا الزمن لأن ترتقي هذه الأحزاب إلى مرحلة الفرز والتميز بين الوطن والحزب لكنها تعجز عن ذلك، لأنها ليس لها من الإمكانات البشرية ما تدافع به عن القضايا التي لا مانع فيها في مجال التنافس على بقية الأحزاب، و تعجز إلا إذا استعانت بالمتمردين والخونة والسفراء».. وزاد: «الذين يرجون من هذه الأحزاب أن تفيق يرجون السراب ولابد أن نكف عن البحث عن السراب ونقول إن هذه الأحزاب لا رجاء فيها، وعلينا سياسياً أن نصبر عليها أهل السودان بكل سوءاتها». وبعدها دلف د. نافع إلى الحديث عن هجليج، وبصفة رجل الأمن والسياسة أورد الرجل معلومات عن الخطوط الأمامية للمعارك، وقال إن المعركة الحقيقية في هجليج بدأت قبل يومين بين طلائع استطلاع للقوات المسلحة ونقطة متقدمة للمتمردين، لكنه أضاف:«لحسن الحظ أن هذا الاستطلاع كان فيه من الشباب ما مكنهم من الاشتباك لعدد من الساعات مع العدو، حتى استنجد المتمردون بقوة من هجليج بينما أرسلت القوات المسلحة مدداً للمعركة وكانت معركة حقيقية»، وأشار إلى أن الاشتباك كان مع حركة خليل التي هزمتها القوات المسلحة واستلمت منهم دبابتين وعشر عربات. وزاد: «ما حدث لهم يفهم من سياق الحديث»، وبعدها تقدمت القوات المسلحة والآن على مسافة 20 كيلو متر من المدينة والروح المعنوية عالية، وأشار إلى أن الانتظار هذا القصد منه إحكام المعركة لتحقيق كل الأهداف، لجهة أن هجليج ليست المقصد، وأن الجيش سيستمر لتحرير كل شبر في البلاد، وأن الذي أرادوه أن يكون عزاً سيكون وبالاً عليهم... ونوه نافع إلى ما صرح به سلفاكير وهو في حالة غيبوبة بأنهم احتلوا هجليج عنوة يعتبر من فضل الله علينا، وقال: بذكاء مغرض ملكنا سلفاكير ما دار بينه والأمين العام للأمم المتحدة بأن الأخير طلب منه الانسحاب لكنه رفض، وأضاف:«لا أعرف لماذا فعل ذلك لأن هذا وضع حلفاءه في حرج بالغ مما قاد الأمريكان إلى مطالبته الصريحة بالانسحاب دون شرط»... ورغم أن نافع اعتبر أن موقف حلفاء الجنوب تحول كبير إلا أنه لفت إلى ضرورة أن يستغل الشمال هذا لأقصى مدى في زحزحة المواقف التي تؤيد الحركة تأييداً أعمى... غير أن نافع اعتبر أن موقف الأمريكان ليس حياءً ولا صحوة ضمير وإنما شفقة على الجنوب، لأنهم يعتقدون أن ما ارتكبه هؤلاء الحمقى سيجعل ردة فعل حكومة الشمال قاسية ومدمرة، لذلك يريدونهم أن يخرجوا ويطالبوا بعدها بوقف إطلاق النار، لكنه أضاف: «إن خرجوا ووب وإن قعدوا اثنين» وقطع نافع بأن د. صابر محمد الحسن قال لهم قبل يوم إن الناس كانوا يتوقعون الذي حدث، وذلك أن الذي حدث إن لم يقد إلى دخول الحركات إلى الخرطوم بالقوة فإنه سيقود إلى الانهيار الوطني، وهنا استرشد بمعلومات قال فيها إن سلفاكير اجتمع بقيادة الحركة وقادة الجيش في يوم 6 أبريل في قاعدة «بلفام» بالجنوب، وقال لهم لابد من تحرير كل المناطق المحتلة وعلى رأسها هجليج... لكن وفقاً لنافع فإن كير قال: لو أننا استعدنا كل المناطق المحتلة لن نأمن إلا بإزالة هذا النظام، بدعم الحركات المتمردة. وقال: طبعاً الذي لم يقله هو دعم كل القوى السياسية في الخرطوم... وأطلق نافع تهديداً مصحوباً بسخرية لما قال إن ناس العدل والمساواة احتفلوا بجوبا مع ناس الحركة باحتلال هجليج، ولكن خلال ساعات سيحتفلون بالخيبة ونقص في الأموال والأنفس من غير أمل ورجاء من الله أن تكون الأوراح شهيدة. وأضاف: «سوف يكون الاحتفال ليس بالدفوف والرقص والخمر، ولكن سيكون العويل والدموع».