المصائب يجمعن المصابين، هي خير ما يُقال الآن عند الشدائد والمحن، فالسودانيون بمختلف اتجاهاتهم السياسية هم قد يختلفون حول رؤية هنا أو هناك وحول ملمح ما قد تراه أنت ليس بالضرورة أن أراه أنا، وقد تتباين وتتقاطع مواقفهم حول السياسة بمختلف أشكالها، ولكن عندما يكون الأمر هو أمر عزة وكرامة وتراب ووطن تجدهم هنا كالبنيان المرصوص، وكالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، هم الآن مع قواتهم المسلحة في كل جبهات القتال على قلب رجل واحد فهي الوقفة المحرية وهي المطلوبة والمشهودة. إذن جميعنا الآن مع القوات المسلحة ذوداً عن حمى الوطن وبتراً للفتنة، فانتهى زمن السياسة ولعبتها وزمن تهزمني هنا وأهزمك هناك لتكون اللغة السائدة الواحدة هي لا صوت يعلو فوق صوت الوطن، ودعنا الجنوب ونيفاشا بخيرها وشرها، ولن نقول هناك خاسر، وهناك مهزوم ولا نادم ولا محسور، وخرجنا بدرس بليغ لا بد لنا كقوى سياسية شمالية من أن نستوعبه ونتأمل فيه فالأمر جلل وله ما بعده. قرأنا نيفاشا وذقنا طعمها ولسنا على استعداد لأن نتذوق طعم ومرارة أية اتفاقية أخرى مع أناس لا يقدرون المسؤولية السياسية ولا يضعون أي اعتبار للعهود، وما قاله الرئيس البشير فيهم (الحركة الشعبية) بعد درس هجليج هو قول كل الشعب السوداني ذلك عندما وصفهم بأنهم (حشرة شعبية)، فالحركة الشعبية (الحشرة) فوتت على نفسها فرصة تاريخية وذهبية، فكل العالم احترم البشير في إهدائه للجنوب دولة وبترولاً من خلال انفصال حضاري وسلس، وكل العالم كان ينتظر من الحركة الشعبية بأن تجعل من البشير رمزاً وتمثالاً وأن تطالب بمنحه جائزة نوبل للسلام وجليل الأعمال، فلا يوجد قائد أفريقي حقق لشعبه ما تحقق، لكنهم لم يفعلوا ذلك بل ناصبوه العداء قبل أن يُكملوا عام دولتهم الأول. تسلموا الحكم في دولة الجنوب وبدأوا أول ما بدأوا يُديرون ظهرهم لكل اتفاق، كنا نريده جنوباً ناجحاً لنقول حينها أنه استحق وبجدارة حكم نفسه بنفسه، وكنا نريده جواراً آمناً نستظل بظله ونتقاسم الخيرات معه، ولكن هيهات لأن العبرة هي بالبدايات والنوايا، فما ظهر من تحرشات ودمار وزرع لبؤر فتن لا يشي بخير من حركة شعبية تحقق لها ما تحقق، كان حرياً بها أن تتجه لإنسان الجنوب تنمية وعمراناً وسؤدداً واستقراراً، لا أن تتجه لإنسان الشمال تحاملاً وتآمراً وعدواناً وقتالاً إذن المسألة في مجملها من نيفاشا لم تكن سوداناً جديداً ولا دولة للجنوب بقدر ما هو مخطط استعماري يستخدم الحركة الشعبية ومن لف لفها كمخلب قط فقط لمواصلة التقسيم الذكي المتدرج الاستعماري ولكن هيهات فملحمة هجليج وما تلاها من ملاحم أكدت أن في السودان إرادة سياسية واعية حكومة ومعارضة وشعباً قاهراً لا يمكن أن تمر عليه مثل هذه الترهات والأفاعيل، فالحركة الشعبية بكل قادتها (دُماها) عليها أن تستجيب لصوت العقل لأن الشعوب واعية وذكية ولا ترحم وهي إن لم تغير من سياستها ومنهج تفكيرها ستتخبط كثيراً في دوامة الفشل وهي تقود تجربة حكم لم تنضج ولم تبلغ رشدها بعد، فالتآمر واضح ووجوه الاستعمار الحديث قد بدأت تُطل برأسها فعلينا الاستدراك والتنبه جيداً كشمال، ومن قبل ذلك استرجاع الذاكرة للوراء قليلاً ذلك عندما قلنا إن قضايا السلام والاستقرار هي قضايا شائكة وأن خيوط غزلها منذ التاريخ البعيد كانت هي صنيعة استعمارية، خطط لها الاستعمار تخطيطاً محكماً وكأنه يزرع ألغاماً في حقول التاريخ فما أن تمضي مسيرة دولة أو بلد إلا وتتفجر. كنا نتحدث عن استدامة السلام كغاية وفلسفة مطلوبة لكننا صرنا بعد خروقات الشعبية وأذنابها وأذيالها نتحدث عن احترام السلام وشتان ما بين الاستدامة والاحترام، فكما قلنا إن الفصل بين الشمال والجنوب تماماً هو حركة في الاتجاه المعاكس نقول أيضاً إن عدم احترام السلام ودق طبول الحرب من قبل الحركة الشعبية هو أيضاً حركة في الاتجاه المعاكس فليتهم يتعقلون ويتدبرون.