* ثقافة التفاوض في حد ذاتها ليست هزيمة أو استسلاماً، والأمم عبر المسيرة التاريخية تلجأ إلى أدب التفاوض، لكنه أي تفاوض! فإذا ما حققت أمة نصراً على الأرض، فإنها تحتاج إلى مائدة مفاوضات لتجعل الطرف الآخر المنهزم يذعن ويرضخ ويعترف كتابة بهذه الهزيمة. فلا زالت الدول كاملة العضوية في مجلس الأمن، والتي تمتلك حق النقض«الفيتو» لازالت تحكمنا بنتائج الحرب العالمية الثانية التي انتصر فيها الحلفاء قبل أكثر من ستة عقود من الزمان. وما لم تنهار هذه «الدول الكبرى» التي تهيمن على العالم منذ أربعينيات القرن المنصرم، لم ولن ينهار «مجلس الأمن» وسيظل يحتفظ بحقه في «النقض» لأي قرار لا يلبي طموحاته وأشواق دوله. وفي ظل هذه الثقافة، العالم برمته الآن كما لو أنه يحتكم إلى «شريعة الغاب»، الإذعان إلى قانون القوة وليس إلى قوة القانون! ووفق هذه الثقافة ولكي يكون لك موطئ قدم في هذه «الغابة العالمية»، عليك أن تُسمعهم صوت سلاحك، فهذا عالم ليس للضعيف فيه مكان. إنها «جاهلية المعرفة» التي هي أسوأ من جاهلية «من لم يذُد عن حوضه بسلاحه يُهدم. ومن لا يظلم الناس يُظلم». دولة كبرى مثل الولاياتالمتحدةالأمريكية، دخلت غازية إلى دولة العراق بحجة أنه يمتلك «سلاحاً نووياً»، ولما اجتاحت هذا البلد وجعلت خمسة ملايين من مواطنيه ما بين قتيل وجريح وأسير ونازح، اعترفت بأنها لم تعثر على «سلاح نووي» ولم تعتذر بل ذهبت في «احتلال دولة العراق» ونهب ثرواته وتحطيم ثقافته وتاريخه ومقدراته. ولم تهتز شعرة للأخلاق والأعراف والقوانين الدولية التي كما لو أنها صُمِّمت لمعاقبة الفقراء والضعفاء. * أسوق هذه الأفكار وأستجمع هذه الرؤى بين يدي إلى طاولة المفاوضات، فالذهاب إلى المفاوضات من حيث المبدأ ليس هزيمة. صحيح أنه في المقابل يعتبر هزيمة وإذعاناً إذا ذهبنا إلى المفاوضات بلا إرادة وبلا هدى ولا كتاب منير. * وبالتأكيد أن هذه «الحساسية المفرطة» تجاه ثقافة المفاوضات لم تنشأ من فراغ. ففي أذهان الجماهير «اتفاقية نيفاشا» التي انتهت إلى انفصال الجنوب والسلسلة الأخيرة من المفاوضات التي جرت على سلسلة الهضبة الإثيوبية. فكلما وقَّعنا عقدا،ً نقضه الجنوبيون قبل أن يجف مداده. وفي بعض الأحيان قبل أن ينصرفوا من طاولة المفاوضات يُنقض الاتفاق على الأرض. أيضاً لن تنسى الجماهير السودانية تلك الضحكات المجلجلة للسيد باقان أمام رفقائه في آخر زيارة للخرطوم، ولما تستقر طائرة عودتهم بعد على مطار جوبا، حتى اجتاحت قوات الجيش الشعبي مدينة هجليج من عدة محاور. وحتى كتابة هذا المقال تشتعل النيران في الحقل النفطي. وتبدو المفارقة في أن نيران نفطنا لازالت تشتعل، وثورة جماهيرنا لم تخمد بعد، «والمجتمع الدولي» يدعونا إلى المفاوضات، ودولة الجنوب ترحب بالمفاوضات. يجب أيضاً أن نرحب بالمفاوضات وبقوة، لكننا نذهب في المقابل أيضاً وبقوة أكبر وأجبر في ملاحقة المعتدين على الشريط الحدودي، «ما هو كلام»، دعوا الدبلوماسية تنتج أطناناً من التصريحات بأن «الخرطوم جاهزة للمفاوضات» لكن التعبئة مستمرة ويد الجيش والمجاهدين مطلقة. وأيضاً للخرطوم شروط ما قبل الجلوس إلى طاولة التفاوض، بأن تنسحب كل قواتها من الحدود الدولية، وأن ترفع يدها عن ما يُسمى «بقطاع الشمال»، وألا تؤوي المعارضين بل أن تطرد «الحلو وعرمان وعقار» وما يُسمى بالجبهة الثورة من أراضيها فوراً، وأن تعترف بخطيئتها في هجليج، وأن تقبل مبدأ التعويض. إذا ضمن المجتمع الدولي تحقيق هذه الشروط على الأرض ستذهب الخرطوم مرفوعة الرأس إلى طاولة المفاوضات في أي مكان، وإن لم تفعل فنحن مستعدون للجلوس للمفاوضات حتى تفعل ذلك. فنحتاج إلى بعض عبقرية وذكاء لتوظيف نقاط قوتنا واستغلال نقاط ضعف أعدائنا..