* كنت يومها برفقة المخرج المميز سيف الدين حسن، نجوب بطحاء أم بدة جهة طريقها القومي الغربي، وذلك لصناعة فيلم وثائقي باسم (سمراء) يُجسِّد تاريخ الأمير المهدوي أمبدة، الذي كان ضمن أمراء المهدية في مقاومة المستعمر. ولما انجلت تلك المعركة طاب له المقام في هذه المنطقة التي عُرفت في ما بعد باسمه. ونجحنا في صناعة فيلم وثائقي ارتكز على ملامح تاريخية راسخة، ثم طفق ينزع لتجسيد الحياة والتعايش والعمران والتراث على أرض واقع المحلية، سوق ليبيا، سوق الناقة، سوق أبوزيد، سوق المواشي، ود البشير، البوابة الشرقية لأمبدة، سباق الهجن، ثم مدينة سمراء للثقافة والرياضة والفنون . * احتدمت لحظتها رغبتي في صناعة فيلم وثائقي عن مضاربنا ومسقط أحلامنا وأشواقنا، فخيركم خيركم لأهله، سيما وقد أصبحت تلك بعض رؤية ومعالم في الطريق إلى هذه الصناعة الوثائقية على أن ينهض الفيلم على المنطقة المروية في الباوقة كمحور ثم تتسع مخرجاته لتشمل المنطقة والمناطق حولها، لتتحرِّك الكاميرا في كل المنطقة ما بين أبو كبيدة إلى الجول وفتوار والسليمانية وشرقاً، إلى أرتولي ومبيريكة وكرني، عمودية الباوقة التاريخية، طالما أننا نرتكز على التاريخ في التوثيق ثم نتوشح ثوب الجغرافيا، وتصبح الفكرة أكثر احتداماً وإلحاحاً إذا أدركنا خطورة المآلات التي تنتظر هذه المنطقة، فإن لم ينجح مشروع سد الشريك الذي سيغمر جزءاً كبيراً من المنطقة محل الفيلم، (فالهدَّام) الذي يجتاح جزرها ومحاورها ومناطق منها مختلفة سينجح في طمس بعض معالمها. وهنالك مهدد آخر أكثر خطورة يتمثل في انحسار مياه النيل وزحف الجزر الرملية على حصة المياه، وأخشى، والحال هذه أن يصبح مناهضو السد أكثر مساندة له لأنه ربما سيكون يوماً الوسيلة الوحيدة للاحتفاظ بالحياة في هذه المنطقة التي يتهددها الجفاف وانحسار النيل وتلك قصة أخرى. * وبعد إنجاز فيلم (سمراء) طرحت فكرة وثائقي (باوقة حمد والأمين)، المنطقة المروية ومناطقها على طريقة (القمر حوله النجوم)، طرحتها على ابن الباوقة الصحافي عثمان محمد محجوب، غير أن الرجل قد غادر صناعة الصحافة إلى صناعة النفط في صفقة أقرب إلى (النفط مقابل الصحافة). فلم يكُن متوفراً بالخرطوم، لكن لم تخمد الفكرة في ذاكرتي ووجداني، بل أصبحت (تتاورني) من وقت لآخر إلى أن التقيت ذات يوم جميل ابن المنطقة المخرج كباشي العوض، فتحالفنا لرسم خارطة الطريق إلى هذه المهمة القيمية الوطنية الملهمة . * لتدرك عزيزي القارئ أن القصة برمتها لا تنهض على أدب جهوي ولا ثقافة عشائرية، بل لهذه القصة جدواها الجمالية والثقافية، مما يجعلها إضافة (لمكتبة الفيلم الوثائقي السوداني)، بل ربما تصلح أن تُسوَّق على مستوى الجزيرة وأخواتها العربيات في المنطقة. فلقد ظلت هذه المنطقة (البستان) ملهمة للشعراء والأدباء والمهتمين بالشأن الثقافي، وحتى يوم الناس هذا لم تظهر في كراسة خريطة برامجنا وخطوطنا وخططنا القومية. هي السحر الذي أخذ منه الشاعر مبارك المغربي طرحة ليغطي بها شعر قصيدته الوطن تلك وهو قول (من جرايد الباوقة طرحة). * نسعى من وراء هذا العمل لإبراز المنطقة في شكل قومي متجانس، بحيث اجتمعت مكوناته في تشكيل هذه المنطقة بستاناً وشعراً ولوحة، مجموعة بطون فكرية (وخشم بيوت) إبداعية والقبائل التي تساكنت وتحالفت وتواثقت لصناعة هذه اللوحة منها الانقرياب بطبيعة الحال والجعليين والرباطاب والعبابدة والحسانية والمناصير والميرفاب والبشاريين وغيرهم. * نحتاج في صناعة وتخليد هذه الفكرة كما أشار لي الأخ الأستاذ يحيى محمد الحسين أحد رموز هذه المنطقة إلى تشكيل ورشة مصغرة من المهتمين والممولين من الأكاديميين والإعلاميين والناشطين. * أخي الإعلامي معاذ أحمد الصغير.. نحن نود أن نُملِّك الأجيال والتاريخ وأبناء المنطقة في الوطن والمهاجر والفضائيات نسخة مدمجة منقحة أصلية من هذه القصة لا تقبل التقليد والتزوير