{ دعوني أدخل من هذا الباب، برغم احتشاد المداخل الكتف بالكتف والحافر بالحافر، فالمقالات المطرّزة بالتاريخ، المرصّعة «بالأحداث الجواهر» تكون مُتْرعة المعلومات، متدفقة الحيثيات لدرجة الارتباك والتساؤل «من أي الأبواب أدلف»؟! { ولا أعرف لماذا انتخبت باب «حزب البعث العربي الاشتراكي»، والمقام مقام اتحاديين يومئذ، والحدث كبير وشاهق، والرحلة طويلة.. طويلة، والأمر جلل، ونحن نودّع منذ يومين «ذاكرة منطقة الباوقة والانقرياب»، عمنا الراحل، الباشمهندس، النائب التاريخي، العمدة ابن العمدة، مختار عبدالله إبراهيم، مُجلّد كبير وعريق من الأحداث والمشاهد قد ختم فصله الأخير منذ أيام، عليه من الله الرحمة والمغفرة والرضوان، ومن يقرأ هذا الكتاب يكون قد تصفّح كل تاريخ منطقتنا الحديث. { لكني سأدخل إلى متن مقالي من باب الأستاذ المحامي الضخم يحيى محمد الحسين، والأستاذ يحيى هو ثالث ثلاثة يديرون حزب البعث العربي الاشتراكي قطر السودان، وتجمعنا بالأستاذ يحيى «بعض الأرحام» وكثير من الهموم وإن فرقتنا بعض الرؤى والأفكار والمهاجر، ويحيى رجل ودود يبهرك بأخلاقه وتواضعه، جلست إليه منذ فترة بمكتبه بوسط الخرطوم، ووالده محمد الحسين، أمد الله في عمره، قد كان نائباً أزهرياً في البرلمان في يوم من الأيام، ونثرنا بعض قوارير عطر الذكريات، ودائرتنا من فرط محافظتها ما كانت تسمع «لرجل أزهري» أن يجرؤ على الترشح فيها فضلاً أن يكون بعثياً أو إسلامياً، وكانت «دائرة مقفولة» بامتياز للراحل المقيم الباشمهندس مختار عبدالله إبراهيم، ولازلنا ونحن تلاميذ مدارس نذكر هتافات الجماهير على شاكلة «فاز مختار والعدو إحتار» والعدو في هذه الحالة هو «حزب الزعيم الأزهري». { صحيح أنه فيما بعد قد حدث بعض الحراك السياسي وتزحزحت الخارطة الفكرية بعض الشيء، فقد تمكّن الكادر الإسلامي الماحي حاج علي المنحدر من قبيلة الرباطاب، والمرشح عن حزب الجبهة الإسلامية، من إحراز عشرة آلاف صوت مقابل أربعة عشر ألف صوت للراحل المقيم مختار عبدالله إبراهيم، وأنا هنا لست بصدد كتابة مقال سياسي لولا أن فقيدنا يُعتبر من أعرق وأشهر البرلمانيين بولاية نهر النيل، وأنه قد امتهن أدب نيابة الجماهير، وقد خرج أصلاً من «بيت كبير» كانت فيه السجادة والعمادة والسيادة والنيابة، وليس بإمكان أحد أن يحصر أنشطة الراحل الفكرية عند مدرسة بعينها، برغم أن الراحل كان يعتنق الطريقة الختمية إلى آخر لحظة، ولم يمنعه ذلك من التوافق مع بعض الأفكار العروبية، أو حتى أن يكون رئيساً للمجلس التشريعي لولاية نهر النيل إبّان حكم الإسلاميين في صدر التسعينيات. { والذي يهمنا هنا هو أن الراحل قد امتهن «نيابة أهله وخدمتهم» وأوقف حياته لقضاء حاجات المواطنين، وليس مهماً بعد ذلك ارتكاز هذه الخدمة إلى أي فكر أوحزب، كما أنشد ذلك الإعرابي يوماً «أمي الإسلام وأبي.. إن افتخروا بقيس أو تميم»، فكانت مهنته خدمة الآخرين ولا يهم بعد ذلك انتماء هذه الخدمة لقيس أو تميم، وكان يرحمه الله، على كل الأحوال والأفكار، رجلاً سمحاً عفيفاً جميل المعشر، كريم المخبر، وسيم المظهر، وبرغم أنه قد أنفق حياته كلها في المعترك السياسي، إلا أن «صفحة تاريخه» كانت ناصعة البياض، لم يسئ إلى أحد ولم تُسجّل عليه ولو جملة واحدة في غير موضعها. { يحق للطريقة الختمية أن تُفاخر به وتُعلِّق سيرته السمحة على أستار كل الدوائر، ويُحق للحزب الاتحادي الأصل أن ينتحب لفراقه، لكونه ضرب نموذجاً في تمثيله، ويحق للأهل والعشيرة (الانقرياب) في الباوقة وأرتولي ومبيريكة والجول وفتوار الإذعان إلى أن الرجل الكبير كان بمثابة «ذاكرتهم وتاريخهم» وأنه، عليه الرحمة والرضوان، أحد كتبهم النادرة التي أُرسلت إلى أرشيف التاريخ، ويمتد العزاء لأسرته الكبيرة التي هي كل المنطقة، وأسرته الصغيرة دكتور علي مختار وإخوانه والأستاذ جعفر عبدالله وعشيرتهم، اللهم أنزله منازل النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. «إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلِيْهِ رَاجِعُونَ»