بعد أن أنجزت الأحزاب وحركات التحرر الوطني مشروع الاستقلال بعد الحرب العالمية الثانية، ورفرفت بيارق الاستقلال من أعلى مؤسسات الحكم الوطني الوليد، وظهرت النخب السياسية والعسكر المسيس، كان الأمل والحلم يراود شعوب العالم الثالث التي كسرت قيود الاستعمار وأعلنت الاستقلال أن تقود النخب الوطنية شعوبها عبر ممارسة ديمقراطية سلوكاً وممارسة وأداء، وكان أول هذه الأشواق ومن أجل سلامة البناء الديمقراطي، كان المأمول هو أن تجد الديمقراطية وترسخ داخل هذه الأحزاب وأن تكون، أي الأحزاب، منصات انطلاق نحو تجويد الأداء الديمقراطي ونشر ثقافة الديمقراطية وجعل المؤسسة الحزبية مدرسة ومنارة تشع ديمقراطية وألق حكم وإدارة شفيفة داخل منظومة الحزب وخارج جدران الاأحزاب، لكن النخب السياسية التي حكمت عسكراً أو أحزاباً سيما في تجربتنا السودانية تنكرت لكل المواثيق والعهود والبرامج التي خلق بها الساسة هامات الجماهير وأصبحت تلك البشريات الواعدة أسيرة عدم الوفاء فران على المنطقة وعمها ليل دامس من ظلمات القهر الأحادي، ودخلت المنطقة في بيات وسبات شتوي جمد الحياة السياسية والحزبية بل حتى الأحزاب التي تدعو الى الديمقراطية تكلست وضمرت أطرافها وأفكارها زوت فاستشرى الفساد وعم الخراب السياسي وغابت الحكمة فتسلط ربائب الحكم العضوض على كل مفاصل البلاد، وهذا الجو الموبوء بالمحن والكروب، مفاسد وسوء مقاصد، عطل كل شيء والسودان ليس استثناءً مما يجري ويمور من حولنا، ورغم كل هذا كانت هناك أصوات تنادي بالتغيير نحو الأرحب، ولكن من حيث لا يحتسب الجميع هبت بعض الحواضر العربية منتفضة بروح شباب متوثب نحو الانعتاق من الحكم الظالم، فاقتلعت تلك العواصف الشابة كثيراً من الأزلام والأنصاب التي ظل كثير لها عاكفين سنين عددا، وأكدت الأحداث أن تلك النصب ليست حجارة فحسب بل عظاماً نخرة، تساقطت كأعجاز نخل خاوية وأجهزتها التي كانت تروع المواطن، ودخل الإقليم من حولنا في فصل جديد، حقاً كان ربيعاً، إذ تغيرت كثير من المعالم التي أضحت أثراً بعد عين، لكن المدهش حقاً هو أن ينبري بعض ساسة هذه البلاد وقادة أحزابها يتحدثون عن هذا الربيع وأنهم على موعد معه دون أن تطرف أجفانهم، يقولون إن هذا الربيع سيشملهم بشمائله. والسؤال هل هذه الأحزاب ديمقراطية داخل جدران أحزابها وهل تعقد مؤتمراتها من القاعدة إلى القمة بكل شفافية ووضوح، وهل مصادر تمويلها معلومة ومراجعة؟ وهل حينما انطلق المارد الشبابي من عقاله ينادي بالتغيير هل خرج ساسة وقادة كثير من الأحزاب أمام أولئك الشباب أم أن أولئك القادة دخلوا الطابور خلسة؟ بل ذهب البعض إلى القول بأن بداية الربيع بدأت بانفصال جنوب السودان وا غوثاه هذا أيم الحق الخطل عينه، فالثورات تجمع وتحوي في أحشائها وتهضم وتقدم الجديد المبتكر وليس الشائه المبتسر، وهذا الرأي البائر الذي ما انفك بعض الساسة يلوكونه ليل نهار لدليل أزمة، وليت هذا الرأي جاء بعد مخاض دراسة متعمقة لما حدث عبر حوارات جريئة ومتوثبة نحو الحقيقة والبعد عن التزيد والعزة بالإثم، والمدهش أن هذا الرأي فتن به وافتتن به ساسة كثر، كل هذا يمور على ساحته وبعض من قادة أحزابنا في شغل شاغل لا هم في نفير عتبة ولا عير أبو سفيان، الكل مشدود بقضايا لا صلة لها بالوطن ومعاش الناس، وفوق هذا وذاك أهملوا أهم التزاماتهم وأولوياتهم، إن كانت لديهم أولويات، وأولى هذه الأولويات قضية الديمقراطية داخل تلك المؤسسات الحزبية العتيقة التي شاخت على مواقعها وعطلت الممارسة داخل أحزابها بالهروب نحو الأمام من الالتزام الديمقراطي بالمؤسسة - إن وجدت - ولكن الشواهد تقول إن أحزابنا في السودان أصابها التشظي والتآكل والتعرية بسبب عوادي الزمان وغياب أهم مصل علاجي داخل الأحزاب وهو الديمقراطية الحقة. ولقد أسس لهذه العلل أولئك الساسة الذين جثموا على انفاس احزابهم منذ ستينيات القرن الماضي ولم تحدثهم أنفسهم حتى اليوم بالرحيل والترجل رغم مشهد بن علي والقذافي ومبارك المؤلم المفجع، فليت قادة أحزابنا التفتوا على مناطق الوهن والهزال في أحزابهم استعداداً لربيع أو شتاء، وذلك بعمل مراجعات دورية وقيام المؤتمرات في مواقيتها وتحديد فترة الرئاسة بدورة أو دورتين، لكن الشاهد أن أولئك القادة الميامين جعلوا من تلك الأحزاب مائدة محدودة المقاعد ومحجوزة لأفراد الأسرة من البنين والبنات والأصهار والمحاسيب والأحفاد وذوي القربى والجار الجنب، مما ادى لما نحن فيه سادرون من تيه تائه جعل الكثرة الكاثرة من الشباب تهجر العمل السياسي وتنصرف لآفاق أخرى متجاوزة تلك الأحزاب الفاسدة في نفسها والمفسدة لغيرها بتجربتها وتجاربها المريرة والمحزنة، فهجرها الشباب غير مبالين بزخرف القول والقول الذي لا يتبعه عمل جاد، إذ أصبحت الأحزاب ضيعة للأبناء حتى لو كان الابن من ذوي الحصر والعي وعيه يضحك ربات الخدود البواكي يحمل ابن الزعيم على رؤوس العباد من ذوي البلاء والبخل والسابقة والإمكانيات، ويقدم على الكافة لا لشيء سوى أنه ابن الزعيم، وكان هذا سبباً من الأسباب التي جعلت شباب الإقليم يلجون الساحات ويواجهون الأجهزة الأمنية والرصاص بصدور عارية إلا من الإيمان بالتغيير، فما الفرق ما بين ما يمارسه الرئيس المخلوع مبارك والقذافي بوضع أبنائهم فوق رقاب العباد وما يمارسه ساسة بلادنا بنا.. وجعل الاحزاب مطية لهم ولأسرهم، فمتى يعي ساسة بلادنا الحقائق ويعود الوعي إليهم، ولا نملك إلا أن نكرر المثل العربي ذا العبر والمضامين المتجددة، إذ يقول (الخيول المخصية لا تصهل).