يكفي في الدول الغربية أن يكشف الشعب يوماً أن أحد الرؤساء أو الوزراء قد تهرّب يوماً من دفع ضريبة، أو أنه كان سجيناً في يوم الأيام، يكفي ذلك سبباً لإقالته من منصبه، وفي المقابل فإن سيرة الكادر السياسي السوداني تُطرز بالمعتقلات والسجون، فلا يمكن أن تكون بطلاً سودانياً خالصاً وليس في ماضيك سجن، فكل سياسيينا من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار هم من مترددي السجون، وتتعدد الأسباب والسجن واحد. وفي مواسم «تجارة الانتخابات» يزدهر سوق السجون، على أن أفضل وأبهر ما تقدم به مُرشّح لمخاطبة الجماهير هو أن تذكر المرات التي زار فيها سجن كوبر التاريخي، فأكثرهم زيارة لهذا السجن العتيق أشهرهم وأجهرهم سيرة، وربما أكثرهم حظوظاً لاكتساح الانتخابات. غير أن سجون الإنقاذ التي غلب عليها «أدب الإصلاح» قد تحسّن حال نزلائها كثيراً، وربما كان أعظم شاهد لإدعائنا هذا الخبر الذي تداولته وسائل إعلامنا المحلية منذ أيام بكثافة، وأعنى تحديداً «درجة الدكتوراة» التي أحرزها السيد عُشر، الأخ غير الشقيق لرئيس حركة العدل والمساواة خليل إبراهيم، الذي كان ينتظر حكم الإعدام بسجن كوبر، فهذا الرجل الذي تكرم بشهادة الدكتوراة في السجن، أو قل أنه وجد في سجنه متّسعاً من «الحرية والحركة والمرونة» هو ذاته من كان يقود غزواً باهظاً على العاصمة الخرطوم منذ فترة ليست طويلة، فأية عاصمة هذه وأية حكومة وأي سجن وأية أمة هذه! وهي حكاية أقرب الى تراجيديا «سجون الإنقاذ تكافئ الثائر عُشر بدرجة الدكتوراة»، فقائد ثوار العاشر من مايو يتخرج من السجن بدرجة دكتوراة! غير أن الشهادة الكبرى التي هي أعظم من الدكتوراة قد فازت بها «سجون الإنقاذ» التي أتاحت لرجل «حبل المشنقة» كان يحوم حول عنقه، أتاحت له هذه الحركة وهذا الأمل. وهذه تذكرني بواقعة طريفة ساحتها «سجن مدينة شندي»، فلما كنا طلاباً بمدرسة شندي الثانوية، كان أيامها السجن يطل على السينما، بحيث يتمكن السجين من داخل حوش السجن أن يتابع الفيلم عبر شاشة السينما. وكان في تلك الأيام رجل كثير التردد على السجن، فقد تمكن الرجل أن يتسلل من السجن الى السوق ليرتكب جريمة سرقة ثم يعود الى السجن، فاكتشف أمره، فسيق من السجن الى المحكمة، فشدد عليه القاضي هذه المرة العقوبة وضاعفها، فصاح الرجل في المحكمة: «يا مولانا هو سجنكم دا سجن، الزول في السجن ويشاهد في أفلام السينما»!. فيتعيّن، والحال هذه، يتعيّن على دكتور عُشر وبعد أن يتلقى التهاني والتبريكات من جموع المهنين، أن يتقدم هو بتدوين شهادة للناس والتاريخ، شهادة لصالح الإنقاذ وسجونها، وربما كانت الحكومة الوحيدة في أركان الدنيا التي تمنح غزاتها شهادة الدكتوراة. بالتأكيد لا يطمع السودان بهذه الخطوة الفريدة من نوعها في التاريخ المعاصر، أن يحصل على أية شهادة ومن أي نوع، من هذا العالم المجنون، الذي فقد وعيه وعدالته، غير أن منظومة «العدل والمساواة، إن هي تمثّلت بشعارات عدلها ومساواتها وامتلكت الجرأة، فستقف أمام الأشهاد والتاريخ وتخاطب الحكومة، هذه بضاعتكم قد ردت إليكم، فالبطل الحقيقي هو عدلكم ومساواتكم، وشهادة الدكتوراة يجب أن تُعلّق على استار سجن كوبر.