الموقف بأكمله أعجوبة من أعاجيب الحزن الذي يختص بتفرد نادر بأمثلته في السودان ..لا يشبهه فيها أي حزن في العالم - ولو كانت أمثلة ضحايا الكوارث الطبيعية أو المجازر البشرية - فالحزن هنا مقيم كمواطن من الدرجة الأولى ومع ذلك يفجؤنا بالموت الحتمي فقط باختلاف الأسباب، كحالة انتحار الطفل (أحمد) عقب وفاة لاعب فريق المريخ المحترف النيجيري (اندوراس إيداهور) يرحمهما الله. فرغم مرور أيام الحداد، ورغم اختلاف سببي الموت، إلا أن يدي لم تفارق قلبي ضغطا عليه لعدم الخروج مني.. احتجاجا على عدم التعبير عن حزنه و ألما حاداً على خيار طفل بإنهاء حياته قليلة السنوات... كرد فعل على حالة الحزن اللاإرادي التي خيمت على الجميع: من كانوا يتابعون بشغف المباراة أو الذين - مثلي - من لا علاقة لهم من قريب أو بعيد بكرة القدم المحلية.. لكنهم يراقبون ما يحدث هنا وهناك.. عقب اعلان الوفاة هاتفيا في الملعب.. تخصصيا تحدث أهل الشأن في ما يتعلق بوفاة المحترف النيجيري والتي انتهت الى قضاء و قدر المشيئة الإلهية. لكن لم يقدم أحد ما متخصص حتى الآن سبباًً عن كيفية إقدام طفل في الحادية عشرة من عمره على شنق نفسه داخل حمام منزلهم حزنا؟! باكيا طوال الليل متورم الوجه والعينين مرتدياً الزي الرياضي بشعار فريقه المفضل محدثا نفسه بأمور يعلمها الله وحده.. رافضا الذهاب إلى اليوم الدراسي العادي، متخيراً ساعة الذروة العملية لربات البيوت قرر (أحمد) وضع حد لحياته بلا صرخة طفولية واحدة تشبثه ببقايا أمل الحياة . والطب الشرعي لم يستطع قول كلمته لنعرف متى حدثت الوفاة وكيف؟ لأن قرار تشريح الجثة لا يبت فيه إلا أولياء الدم الذين رفضوا وقرروا قبول القضاء والقدر! ودفن (أحمد) بجميع الأجوبة الحيوية والأسئلة الحائرة التي لن تجد ابداً أرضا ترتاح فيها... من حق أسرته لا شك عدم تعريض جثته لرهق التشريح الطبي بعد ان عانت من التعلق على حبل اليأس.. ومن حقنا أيضاً أن نأخذ (أحمد) نموذجا للتشريح الاجتماعي لحالات انتحار الأطفال التي على قلتها في السودان إلا أنها وجدت! فمن أين أتت فكرة الانتحار لدى طفل في رابعة أساسي التعليمي؟ من الإنترنت - حالة انتحار الطفل (عشر سنوات) الأمريكي ذي الأصول اللاتينية الذي يأس من تعرضه للأساءة اللفظية من زملائه - تاركاً رسالة توضح ذلك؟! أم من الدراما التلفزيونية الأجنبية، خليجية أم تركية؟ أم من الصحف؟؟؟ والإجابة على هذا السؤال تفتح مجالا فضائيا للأسر بمراقبة ما يتابعه صغارهم عبر الوسيلة الأكثر قربا لديهم.. وتعريفهم بمدى ذكاء وسعة خيال أولادهم. كيف استطاع (أحمد) ربط أنشوطة الحبل بطريقة قوية ومحكمة لم تدع فرصة لسقوطه قبل تمام الشنق؟ ففي حين أن النشاط الكشفي في السودان تراجع رغم مؤتمراته المنعقدة داخله. وهو النشاط الذي يتكفل بتعليم الأطفال وسائل الحماية البرية والبحرية والجوية ومن ضمنها ربطات الحبال المنقذة - وقد استخدمها الطفل الأمريكي لأنه يعرفها من نشاطه الكشفي - و(أحمد) ليس كشافا!! كيف وصل طفل لم يتعد الحادية عشرة من عمره هذه المرحلة الخطرة جدا من الهوس العاطفي الإنتمائي لفريق لمدى وضع حد لحياته مقابل نهاية حياة لاعبه المفضل ؟ هل البيئة المحيطة به هي السبب أم غياب الأنشطة الأخرى التي تتعامل مع عمر ومقدرة الطفل ..؟ هل للوازع الديني دور هنا ؟ بمعنى الإيمان بالله واليوم الآخر ومعرفة الطفل بالحقائق الدنيوية والأخروية من موت و ولادة ومعانى الانتحار في الدين؟؟ هل كانت هناك أسباب أخرى تضغط على (أحمد) وموت (إيداهور) كان فتيل انفجارها..؟؟؟ وإذا كان الحبل الذي به شنق نفسه (أحمد) أمام أعين المجتمع بكامل جهاته التربوية و التعليمية والتقييمية والنفسية والرياضية، هو حبل من ليف طبيعي أو صناعي فأنه قد لفّ على أعناقنا حبا من مسد يرفعنا الى شفير نار الحزن ويرمينا الى أسفل جهنم الجهل!!