نجد أن مَلَكة التشجيع تخبو وتصل لأدنى مستوى لها في حركة نشاطنا الإجتماعي اليومي، مما يُسفر عن ضمور بائن في فلسفة الجمال.. ذات الأثر القوي في إنعاش مَلَكات الإنسان الفكرية والجمالية. فالتشجيع والإطراء يبعثان الحماس في النفس البشرية فترتقي بما لديها من إمكانيات كامنة وتوظِّفها في بناء العلاقات الإنسانية والتي بدورها تحقِّق العلاقة الترابطية بين الفرد ومجتمعه. أذكر أنني جلستُ إلى رجل يتمتع بكفاءة علمية ذات يوم حيث دار حديثنا حول التحصيل الدراسي لدى الطلبة في مختلف المراحل الدراسية. فقال لي إنني أعاقب ابني إذا أخفق في إحراز الدرجات الصحيحة في الامتحان فأبرحه ضرباً بعدد أخطائه.. فقلت له وماذا تمنحه إذا أحرز الدرجة الكاملة.. فقال لا شيء..فقلت لماذا لا ينال هدية قيّمة من جانبك كأب لتبث في نفسه التشجيع حتى تسمو العلاقة بينك وبينه؟.. هذا ما حدث أيضاً للكاتب الإنجليزي هربرت جورج ويلز المشهور ب(ه. ج. ويلز) عندما كان يعمل في محل لتصليح الأحذية وكان محل العمل عبارة عن (بدروم) في أحد المنازل وكان ويلز لا يرى وجوه الناس لساعات طوال.. ولكنه يرى أحذيتهم تلك التي تمر عليه من نافذة البدروم أو التي يتولى إعادة تقويمها مرة أخرى.. وذات يوم ضاق ذرعاً بهذه المهنة وذهب لوالدته التي كانت تعمل خادمة لدى أسرة كبيرة وبث لها همومه وأوجاعه.. ولكن الأم نهرته وطلبت منه العودة لمكان عمله ومعاونتها على مجابهة الحياة والصعاب.. وعاد يائساً فاقداً لأهم دافع من دوافع الحياة وهو التشجيع من قبل أمه. وأثناء ذلك قرر أن يبعث بخطاب لأستاذه القديم.. وقد ذكر فيه أنه يعيش حياة جافة لا معنى لها وأن الموت هو الحل الوحيد للتخلُّص منها فما كان من أستاذه إلا أن راح يبعث له برسالة أثنى عليه فيها ومدحه كثيراً وأكد له أنه شاب رائع يملك أسلوباً بليغاً في كتابه الرسائل وهو ما يدل على أنه صاحب موهبة تحتاج لمزيد من الوقت لكشف معدنها الأصيل.. وكانت هذه الكلمات بمثابة طوق نجاة لهذا الفتى الذي عاد للحياة مفعماً بالأمل.. وقد انكب على الكتب الأدبية و(التهمها) وسرعان ما أصبح الفتى من خلال تشجيع أستاذه له أحد أشهر أدباء العالم.. ثم عمل بعد ذلك بالصحافة.. وكان له أسلوب يتميز بالطابع الفكاهي.. ثم ترك مهنة الصحافة وتفرّغ كلياً لكتابة أدب الخيال العلمي بجانب كتاباته الإجتماعية والتاريخية. فهذا الأديب لولا شعلة الحماس التي أشعلها في نفسه أستاذه لما عانق هذا المستوى الرفيع كإنسان مؤثِّر في دورة الحياة.. ومشاركاً بسعة أفقه وخصوبة خياله في معالجة قضايا المجتمع. فالتشجيع تمارسه مجتمعات شتى بعفوية كأنه حق مشروع يجب أن يُمنح.. أما نحن كسودانيين نستحي أن نبُث في نفوس الآخرين هذه المَلَكة.. هذا مسلكنا.. وسبب الكثير من مشكلاتنا التي تزداد تعقيداً وتصعيداً كل يوم.. فالدولة مثلاً لا تشجِّع قطاع الزراعة بما أننا نمتلك رقعة زراعية مليونية يحسدنا عليها (الخواجات)، ولا تشجِّع قطاع الصناعة وباطن الثرى الذي تنام عليه كنوز المعادن المختلفة والمتنوعة، ولا تشجِّع الإنسان على البناء ولا تحفِّزه عليه.. وهو بدوره لا يساعد نفسه طالما ظل ضامر الوسط.. نابت العظم.. ولا تشجِّع على إعادة ترميم بيوت الأدب والفن لمالها من أثر قوي في مخاطبة الوجدان.. وترقية المشاعر.. وتعميق الفكر .. والناس بمختلف وظائفهم وأعمالهم لا يشجعون الدولة على النهضة التكاملية الشاملة وذلك ببتر الساعات المكفولة للخدمة العامة.. وبذلها فيما لا يفيد و(لحس) الأموال السائلة السائبة هنا وهناك.. وتجزئة العمل و(ترقيعه) بدلاً عن انجازه بمهارة واتقان. والتشجيع أحياناً يُبذل لمن لا يستحقه والذي يستخدم تأثيره لمصلحته الخاصة .. فالناس تشجع السفهاء على حساب رجال الدين.. وأصحاب الجاه على رجال الفكر.. وحامل البندقية على مالك اليراع.. وصاحب النظر المعطوب على حساب الموهوب. الإتساق العاطفي بين الناس يجب ألا ينفرط عقده ويتبعثر فراداً ويغدو خيطه واهياً بفعل الامتناع عن نثر (التحلية) على مجهودات الغير وتشجيعهم شفاهة أثناء إنجاز المهام الشخصية أو الغيرية.. لأن أعمق المبادئ الكامنة في نفس الأنسان هي التماس الإحترام والتقدير.. لذلك قِس المسافة بينك وبين الآخر وابحث عن مهاراته ومميزاته وشجعه على بذل المزيد لإتقانها وترقيتها حتى يساهم في منظومة النهضة الشاملة.