في فرح الطفولة وأهازيجها كانت عيوننا تطالع لافتة معلقة على جدر المدارس التي دبت على أرضها أقدامنا الغضة على أول طريق العلم، تحوي بيت شعر أثير، مفعم بالحكمة، لأمير الشعراء العرب أحمد شوقي يقول: «بالعلم والمال يبني الناس ملكهم... لم يبن ملك على جهل وإقلال». وظلت هذه الحكمة واقرة في نفسي وعقلي، تلح عليَّ إلحاحاً شديداً، كلما تأملت حال أمتنا، التي فقدت ملكها المديد، ومجدها الزاهر، وأيامها المجيدة، التي عاشتها في القرون التي خلت. وشيدت، كغيري، على ما أسسه شوقي تصوري لعناصر النهضة، وهي «العلم والمال»، وكتبت في هذا غير مرة، حتى أتيح لي أن أطالع المشروع الفكري للمفكر العربي قسطنطين زريق، الذي رحل عن عالمنا في مايو من عام 2000، فعرفت من بين ثنايا كتبه العديدة، التي تكفل بنشرها «مركز دراسات الوحدة العربية»، أن الملك والمجد يتأسسان على «العقل والأخلاق» قبل المال والثروة، وهي المسألة التي تداركها شوقي ببيت شعر آخر يقول فيه: «إنما الأمم الأخلاق ما بقيت... فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا». ويؤسس زريق رؤيته هذه على اقتناع بأن الأيديولوجيات السائدة في العالم العربي لم تفلح في إزالة الأوضاع السيئة أو تخفيف شرورها، ويحصر هذه الأوضاع في مشكلات الفساد، والتسلط، وتعثر التنمية، وتغليب الكم على الكيف في حياتنا، إلى جانب ما أسماه القصور الوطني والقومي، ثم يعرض خريطة بمواقف الأفراد والجماعات في العالم العربي من هذه الأوضاع المضطربة والضاغطة، مقسماً إياها إلى نوعين، الأول يشمل من وصفهم بالمهزومين، وهم أولئك الذين تغلب الأوضاع المأساوية عليهم، فينهزمون أمامها، ولا يحاولون تغييرها. ويتوزع هؤلاء على «الغائبين» الذين يمثلون، في نظره، الكثرة المطلقة من الجماهير العربية، المنشغلة بأعباء الحياة اليومية، حيث السعي الدائب وراء لقمة العيش، ومكافحة مختلف الأمراض، والمعاناة من وطأة ظلم بعض الحكام، وبذل الجهد في سبيل الحفاظ على البقاء، ومن ثم لا يبقى لديهم ما يكفي من الوقت والجهد للشعور بضرورة التغيير، أو على الأقل اكتساب القدرة على ذلك. وهناك «القدريون»، الذين يشعرون بوطأة الحاضر ومشكلاته المعقدة، فيستسلمون لها، ويعتقدون أن ما يجري ليس من صنع أيديهم، ولا يمكنهم تغييره، وأن أية محاولة يقومون بها في هذا الاتجاه مآلها الفشل. ومن بين هؤلاء من يحملون فهماً خاطئاً للدين، وهم كثر في عالمنا العربي. وهناك «الهاربون» الذين يفرون من هذه الأوضاع، سعياً وراء الرزق أو الأمن، إما إلى الخارج (هجرة العقول العربية)، وإما إلى الداخل، حين تأنف النخب من الأحوال الجارية في «المراكز» وتخشاها، فتهاجر إلى الهوامش أو الأطراف الجغرافية، لتنأى بنفسها عن أية مشكلات مع السلطة، وتنعزل عن المجرى الرئيس لحركة الحياة. وهناك «الندابون واللوامون والمستهزئون»، وهم إما ينوحون على مصيرهم القاسي وحظهم العاثر، أو ينحون باللائمة على هذا أو ذاك من الزعماء والمتزعمين، وإما يسخرون من أي بارقة أمل في إصلاح الأحوال. وأخيراً هناك «المستغلون»، الذين يجدون في استشراء الفساد فرصة سانحة للقفز على المناصب، وجمع الثروات. أما النوع الثاني فيشمل «الملتزمين» وهم في رأي زريق، أولئك الذين اختاروا مذهباً أو أيديولوجية، فاعتنقوها، وسعوا إلى تطبيقها في الواقع، الأمر الذي أدخلهم في علاقات ما مع السلطة والمجتمع. وهؤلاء يتوزعون على التيارات السياسية الرئيسية في العالم العربي، وهي القومية، والإسلام السياسي، واليسار بمختلف ألوانه بدءاً من الاشتراكية الاعتدالية إلى الشيوعية. ولكن جهود هؤلاء لم تثمر المأمول من بذلها، ولم تترك أيديولوجياتهم، في نظره، أثراً إيجابياً يذكر، يمكنها من تغيير الأوضاع السائدة، ومن ثم إخراج العرب من وهدتهم الراهنة. وأمام هذه المشكلات المعقدة، والبشر الموزعين على مشارب ومواقف عدة، يرى زريق أن الحل يكمن في تحويل السكوني إلى حركي، والقلق السلبي إلى قلق إيجابي، والانتقال من العجز إلى القدرة، ثم إلى التحرر. ولن يتم هذا، في رأيه، إلا عبر مبدأين أساسيين هما العقلانية والخلقية. والعقلانية تقوم عنده على «إخضاع كل شأن من شؤوننا، وكل قضية من قضايانا لأحكام العقل المتفتح، الضابط، الساعي إلى التمييز بين الصواب والخطأ، والمعرفة والجهل، والخير والشر». أما العقلانية فترتكز لديه على عدة أسس، أولها الموضوعية، التي تعني دراسة الأمور بشكل مجرد، بالاعتماد كلياً عليها ذاتها، والاستقلال عن أي وهم أو اعتبار لدينا. وثانيها الخضوع للنقد، أي فتح أبواب النقد الذاتي على مصاريعها، في ظل جو من الحرية والمسؤولية. وثالثها العزم والجلد، فنحن لا نصل إلى الحقيقة دفعة واحدة، ولا نقفز إليها مرة واحدة، ولكن عبر جهد طويل في ظل إرادة حية وسعي مستمر ومتراكم، من أجل اكتشافها، ومن ثم ممارستها. ويجب أن نكون مستعدين لتحمل أي صعاب تواجهنا، مهما كانت قاسية، في رحلة بحثنا عن الحقيقة. أما الخلقية، فتقوم، في رؤية زريق، على قاعدة أولية تتضمن الاهتمام بالآخر قبل الاهتمام بالذات. وهذا الآخر قد يكون فرداً، وقد يكون مجموعة، تصل إلى حد الوطن، والإنسانية برمتها. ولا يقدم زريق هذين المبدأين، اللذين اشترط توافرهما حتى يمكننا بناء إطار فاعل للحركة السياسية العربية، وهما في حالة انفصال أو سكون، وإنما في حالة تفاعل، أو تأثير متبادل، فالعقلانية هي في الوقت نفسه مزية أخلاقية، والعقلانية لا تتم، ولا يمكن تحصيلها بالتخلي عن الخلق، بل بالاستناد إليه، والتمسك به، والعض عليه بالنواجذ. فيا ليت العرب المعاصرين تأملوا ملياً قبل، شوقي وزريق، ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثين شريفين هما «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» و»اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد»، ورحم الله عباس محمود العقاد الذي وسم أحد كتبه بعنوان: «التفكير فريضة إسلامية»، ومحمد عبده الذي كان يردد دوماً «الإسلام دين العلم والمدنية»، لكن بعد كل هذا نجد من يعيش بين ظهرانينا بعقول غائبة جامدة وأخلاق خامدة، وهم كثر، ثم نسأل أنفسنا في حيرة: لماذا نتأخر ونضرب كالعميان في جب لا نهاية له؟