كانت الشمس يوم الخميس الماضي تتجه غرباً بأشعتها بعد أن ارتفعت درجة الحرارة التي صحبها غبار عالق في الجو، بحسب وصف هيئة الأرصاد الجوي. وفي ظل هذه الظروف الطبيعية أعلن الأطباء دخولهم في إضراب شامل الى حين الاستجابة لمطالبهم المتعلقة بتحسين بيئة العمل وتحسين شروط الخدمة بعد أن دفعوا الغالي والنفيس لترقية مهنة الطب. كان الخميس هو اليوم الثالث للإضراب عن العمل عندما وجدت نفسي أمام مستشفى الخرطوم وقد أصابتني أعراض حالة تسمم لا أدري كيف أُصبت بها، ما لفت انتباهي عند مدخل الحوادث والطوارئ وجود أفراد من الشرطة بزيهم المعروف، سألوني عن وجهتي وبصعوبة أخرجت الإجابة، فدلُّوني على موظف الاستقبال الذي منحني ورقة بعد أن شرحت له حالتي الصحية، وعندما اتجهت الى وصفه لم أجد في المكتب أحداً وقد دخل وقت صلاة المغرب، وكان هنالك بعض الذين ينتظرون، فسألت مكتباً مجاوراً عليه لافتة «الجراحة» موضوعة، فقرأتْ طبيبة الورقة وطلبت مني انتظارهم لعلهم ذهبوا الى أداء الصلاة أو شيء آخر لا أعرفه، ولم تكد خطواتي تسوقني الى الخارج حتى وجدت أحد أصدقائي الذين يعملون في المستشفى، وظن بأن مهنة المتاعب أرسلتني لأتفقد حالة المستشفى وسير العمل بها بعد إعلان الإضراب، فأخبرته بإضراب أجهزة معدتي عن العمل، فضحك واصطحبني الى موظف الاستقبال مرة أخرى، وأعطاني ورقة عرفت أنها تدل على أن الحالة المرضية مستعجلة تستوجب أقصى درجات الاهتمام من الطبيب. وفي غرفة الحوادث أولتني الدكتورة «نهى» كامل العناية بعد أن قامت بكافة الفحوصات، كانت الحالات المرضية من حولها تدل على تفانيها في العمل، وهي ترتدي زيها الطبي كاملاً بلونه الأبيض المميز دلالة على أنها غير مضربة عن العمل على الرغم من أنني لم أسألها بذلك الخصوص. وبعد لحظات جاء طبيبان مضربان عن العمل تعرفت عليهما من ذلك الصديق، وقد بدأ أحدهما في الاهتمام بحالتي فسألته لماذا يفعل ذلك وهو مضرب عن العمل؟ فرد عليّ بالقول إن لجنة إضراب الأطباء وجَّهت بالوقوف مع المرضى في حالات الطوارئ الحرجة والحوادث تقديراً منهم للحالات الإنسانية للمرضى، ولم يشأ أن يخوض معي في تفاصيل أكثر وصار يتابع «قطرات الدرب» المتتابعة على الرغم من وجود ممرض الى جانبي يقوم بدوره المنوط به. بعد لحظات جاءت الدكتورة «نهى» مرة أخرى وبيدها نتيجة الفحوصات الطبية ودار نقاش لطيف بين الثلاثة، اكتفيت من خلاله بدور المستمع لحالة تسمم أصابت القطاع الطبي والصحي على حد سواء، بلغت حد أن يكون سيف الفصل من الخدمة مُسلّطاً على رقابهم وهم يدفعون بجملة من المطالب أمام وزارة الصحة، وصفها بعض كُتّاب الرأي العام بأنها عادلة، فما الذي جعل الحكومة تتَّهم المعارضة بأنها وراء تحريك الأطباء للقيام بالإضراب وصناديق الاقتراع قد باتت تنتظر أصوات الناخبين؟ ومن الذي يفسِّر موقف الحركة الشعبية في تناقض تابيتا بطرس، وزيرة الصحة، التي تدعم موقف المؤتمر الوطني بينما تقف قيادات أخرى من الحركة الشعبية، وعلى رأسها ياسر عرمان، مع مساندة الأطباء المضربين والوقوف مع قضيتهم العادلة؟ لعلها حالة تسمم سياسي أخرى قد لا تنفع معها المضادات الحيوية ما قبل الانتخابات، أما المريض السوداني في مستشفيات الخرطوم والولايات الأخرى الذي أصابه الرهق في البحث عن خدمة طبية متميزة يدفع من خلالها ما يجمعه في شهر كامل، فقد أصابه التيبُّس في كل يوم ينتظر فيه ترقية القطاع الصحي والطبي والاهتمام بكل العاملين فيه قبل أن يسأل الله الرحمة والعفو بعد بلوغه الدار الآخرة من إحدى المستشفيات بسبب الإهمال!!