في انتظار البنت السمراء الفارعة إهداء:- «إلى فاطمة.. وإلى صديقي م.أ، مجنون يسكن ذاكرة لن تتلاشى». إضاءة: 31 ديسمبر 1991م.. حزينة وباردة هذه الليلة، وقد غاب كل الذين تحبهم، وصوت المغني المفعم بالشجن يملأ دواخلك المتعبة بالحنين. كل أمانيه في هذه الليلة، وأنت لك أمنية وحيدة، أن تضع رأسك في حضن تلك البنت السمراء الفارعة، وتبكي.. تبكي.. تبكي... ثم تتوسد ركبتيها وتنام. أضعت أمك، أو أضاعتك هي، فكيف ستجدها في مدينة كل دروبها تأخذك بعيداً.. بعيداً حد الغيبوبة، ثم تعيدك لنفس نقاط البداية؟ خيوط الضياء تدخل الغرفة - 14 يوليو 1984م... هادئة هي الغربة، إلا من صوت «مروحة السقف» الدائرة بنصف سرعتها، وأحداث رواية «جورج أمادو» المدهشة عن أبناء الشمس الرائعين تشدك إليها بعمق، دون أن تحس بوقع خطواتها الصغيرة على أرضية الغرفة، متجهة نحوك بهدوء، ثم فجأة تحس بثقل إنسان بجانبك على السرير، وطلاء أظافر بلون أحمر قانٍ ليدٍ تسحب الكتاب منك. يا الله، ما أجمل تلك «الشامة» على الخد الأيسر في ذلك الوجه الجميل! وما أعذب تلك الابتسامة! قبل أن تصحو تماماً من دهشتك؛ يجيئك صوتها كموسيقى في هدوء ليلة على وشك الرحيل: هل تعرف أنني قد تورطت في حبك تماماً، وإلى الأبد؟ أخذتها إلى صدري؛ فسكنت تماماً، وأخذت أستمع إلى صوت تنفسها المنتظم وقد ذهبت في نوم عميق. رجعتُ إلى مواصلة القراءة، وعلى صدري تنام أجمل امرأة في العالم. أين أنت يا امرأتي الجميلة؟ إنني أشتهيك الآن، وأفتقدك في مدينة كل دروبها تأخذك بعيداً.. بعيداً حد الغيبوبة، ثم تعيدك لنفس نقاط البداية. فاطمة تثير الأوجاع القديمة 1989م... صامدة هذه المرأة، وصابرة في شموخ مثل نخلة تقاوم الريح العاتية ولا تنكسر.. شاخت قليلاً، وطيف يشبه الأسى في عينيها، ألمحه وهي تحاول إخفاءه.. تذكرت رحيلي الأول عنها يوم وقفت على محطة السفر في ذلك الطريق الصحراوي الموحش وهي بجانبي تنتحب بحرقة.. لم أجد درباً يعيدني إليها، فجاءت خلفي بنهر من الشوق و«صُرَّة» من البلح والفول، و«زوادة» من «قراصة التمر»، أنا الضائع منها في مدينة كل دروبها تأخذك بعيداً.. بعيداً حد الغيبوبة، ثم تعيدك لنفس نقاط البداية. يا الله يا فاطمة، ليتك تأتين الآن، وتأخذيني لصدرك طفلاً؛ فأنام. الأطفال يغنون فرحاً لامرأة فارعة - 6 أبريل 1985م... جوعى وأسمالهم بالية، في يد كل منهم قطعة قماش متسخة يقربها من أنفه بين لحظة وأخرى. وقفوا تحت شجرة «مانجو» على النيل وقد أخذتهم الحيرة في كيفية الوصول إلى ثمار الشجرة الناضجة. في وسط حيرتهم، اقتربت منهم، لمحها أصغر الأطفال؛ فهتف: «يا طويلة».. تعالي دلي لينا منقة. ابتسمتْ، داعبتْ خد الطفل الصغير، ثم اقتربت من الشجرة وهزّت أحد الأغصان؛ تساقطت الثمار. أخذ الأطفال يتصايحيون في فرح وهم يلتقطون الثمار: «البت» الطويلة دلت لينا المنقة من فوق. وكانوا يرقصون على إيقاع لحن ارتجلوه سريعاً «البت الطويلة، دلت لينا منقة من فوق»، وهي في وسطهم ترقص وتردد معهم: «فوق.. فوق.. سودانا فوق». اقتربتُ منهم، لمحتني البنت السمراء الفارعة فنادتني أن أشاركهم، ابتعدت عنهم مسرعاً وأنا أنادي: يا خوفي عليكم من مدينة كل دروبها تأخذكم بعيداً.. بعيداً حد الغيبوبة، ثم تعيدكم لنفس نقاط البداية. المدينة تستعيد أحزانها... والسمراء الفارعة تحاول استعادة الفرح... حزينة وباردة هذه الليلة، وقد ذهب كل الذين نحبهم، فتعالي أيتها السمراء الفارعة، منتصرة بعسل عينيك على كل القيود. تعالي ليموت الحزن. تعالي تأخذنا دروب المدينة إلى النهر. تعالي تعود امرأتي الجميلة. تعالي لتفرح فاطمة وينداح العطر.