كانت الساعة تشير إلى الوقت الفاصل بين غبش الفجر وضياء الصباح صبيحة الأحد الماضي حينما رن هاتفي الجوال بإلحاح عنيف، فلم يكن أمامي بد من الاستجابة لرنينه المتصل، فكان ثمّة من يطلبني لمرافقة وفد من حزب المؤتمر الوطني قيل إنه سيتوجه بعد ساعات قلائل إلى ولاية نهر النيل في إطار ما يعتلق البلاد من تحول ديمقراطي، فحمدت الله مابين كسلي ونعاسي على أن الإنقاذيين اختاروا هذا التوقيت الباكر لاستجداء أصوات الناخبين كجسر للسلطة لا غصبها رغم أنوفهم وإرغامهم على التجلُّد لسماع البيان الأول. فحملت ما يحوجني كصحفي ناقل للأحداث لا صانع لها، وتوسطت مع آخرين رتلاً من السيارات التي نهبت الأرض جهة مدينة الدامر. وإن كان ثمّة ما يؤسفني حد الوجع هو عقدة السؤال الأكثر حضوراً في أذهان المراقبين: لماذا كذَّب السياسيون آلاء (14) ممارسة ديمقراطية كان يمكن إنجازها منذ الاستقلال حتى يوم الناس هذا؟ وبأي منطق عافوا آراء الجماهير ورغباتهم في اختيار من يحكمهم وكيف يسوسهم طيلة (54) عاماً مضت؟ ٭ مساج في «فلايت» العباد بدأت رحلة وفد المؤتمر الوطني من الخرطوم يقودها مُرشّحه للدائرة القومية (5) الدامرالغربية الزبير أحمد الحسن، لينضم إليه في منطقة المحمية رئيس المؤتمر الوطني هناك الشاب عمار باشري ومُرشّح الحزب لمنصب والي نهر النيل الفريق الهادي عبد الله ومُرشّحون آخرون للمجالس التشريعية الولائية ليتفقوا جميعاً على إنجاز زيارات مضنية تستمر ل(3) أيام تستهدف مقابلة أكثر من (20) قرية للتحدث إلى أهلها كفاحاً دون حجاب بشأن الانتخابات حال كونها حِراك مفصلي في تاريخ السودان السياسي، فكان أن أنجزت تلك الزيارة بلا بروتكولات تُذكر، وتحدث الوفد إلى أهل المناطق في الهواء الطلق بلا وسيط سوى ميكرفونات من الحديد القديم معلَّقة على كباين البكاسي في أغلب الأحوال، فاستغلت تلك التجمعات وميكرفوناتها للتبصير بكيفية الاقتراع وأهميته للدرجة التي طالب فيها باشري بحمل حتى النساء (النُّفَّس) لمكان الاقتراع خوفاً من مغبَّة تضييع فرص الفوز التي ينتظرها حزبه. واتبع ذلك التبصير توفير أكثر من (3) ملايين نموذج لبطاقة الاقتراع كنسخ خاصة بالتدريب ينوي المؤتمر الوطني توزيعها في بحر هذا الإسبوع للتعرف على كيفية التصويت الصحيح. وكان على قادة المؤتمر الوطني بالمقابل أن يستمعوا إلى ممثلي المناطق والقرى الذين ارتجفت أياديهم وهم يتلون أوراقاً ناءت بمطالب السكان في الكتياب والعالياب والزيداب وأم حقين والحصايا والجباراب والجابراب والشويراب والجادلاب بشرق النيل وغربه، يتوسلون تلبية الخدمات وهموم الشباب دون أن ينسوا منح اليهود والنصاري حظهم من اللعن. ولم يكونوا كاذبين وهم يرددون شعارات محفوظة عن الإنقاذ حينما قالوا (لا لدنيا قد عملنا) فقد كان واقعهم المعيش يتطابق إلى حد باتع مع فكرة مجافاة الدنيا والتحلل من عرضها الذي فرضته سنن القرن العشرين. فكانت ردة فعل المُرشّحين على مطالب الأهالي هو التزامهم بتقديم كافة الخدمات والمشاريع التنموية التي بدأتها الحكومة منذ عشرين عاماً، على أن يسبقها اعتماد الشريعة الإسلامية كنظام للحكم، لتعقبها سخرية من الأحزاب المنادية بالعلمانية لدرجة توعَّد فيها الزبير أحمد الحسن أحد المُرشّحين الرئاسيين بالجلد (80) جلدة في حالة ضبطه معاقراً للخمر. ورغم الثقة في الفوز المحسوسة في حديث المُرشّحين إلا أن الزبير لم يشأ أن يقلل من وجود بقية الأحزاب كمنافسين فقط، رغم وصفه لأدائها بالضعف المفضي للفشل. ٭ تورين ودكة تتمدد قرى ولاية نهر النيل على شريط النهر في ضفتيه الشرقيةوالغربية، على طبيعة جغرافية زراعية آهلة بالسكان شاء لها أن تهدي العملية الانتخابية أكثر من (50) ألف ناخب يحق لهم المشاركة في الاقتراع، فاقتضت مجريات الولاء السياسي تقسيمهم بين الأحزاب المتنافسة مابين أمة واتحادي ووطني وغيرها من الأحزاب، إلا أن أكثر مفارقات التقسيم لفتاً للانتباه هو ما حازت عليه قرية العكارية (النسب لعكريب) التي أهدت التنافس الانتخابي مُرشّحين اثنين خرجا من بطن واحدة ورضعا من ثدي واحد ولم ينفصلا إلا حينما اختار أحدهما (عبد الحي عكريب) الترشُّح عن المؤتمر الوطني، بينما اختار (عبد الرحمن عكريب) خدمة منطقته عبر حزب الأمة القومي وإمامه الصادق المهدي، ليعيدا للأذهان استنتاجات المراقبين التي تزعم أن أغلب الأحزاب السياسية لا تتميز عن بعضها إلا في إطار المصالح الاقتصادية الضيقة وبعض الخصوصيات الصغيرة ولا تستند على اختلافات أيديولوجية متناقضة. فاتخذتُ أنا من هذا الاستنتاج اتهاماً وجَّهته لعبد الحي عكريب مفاده أنهما قسَّما الأدوار بينهما كيما تكون الأسرة موجودة داخل السلطة فأينما هطلت أمطارها سيأتيهم خُراجها. إلا أن عبد الحي قابل اتهامي بالنفي، وحكي لي رحلة تقلُّباته ما بين أنصار السنة وحزب الأمة والمؤتمر الوطني بحثاً عمن يلتزم بالنهج الإسلامي، بيد أن رد الاتهام السابق كان عند عبد الرحمن عكريب عبارة عن غمزة بالعين وربتة على كتفي و(إنتو الصحفيين ما عارفين الموازنات دي.. فما في داعي)، ثم حليفة بالطلاق أن نستزيد من الأكل حال كوننا ضيوفاً عليه داخل منزله نحن ومن معهم من وفد المؤتمر الوطني.